كتاب " أصول علمي الإجرام والعقاب "، تأليف د. طلال أبو عفيفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أصول علمي الإجرام والعقاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أصول علمي الإجرام والعقاب
المبحث الثاني
مراحل تطور علم الإجرام
لمبروزو صاحب كتاب "الإنسان المجرم"
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطوراً في علم الإجرام بعدما ظهرت المدرسة الوضعية الإيطالية بقيادة مؤسسها الأول الطبيب الايطالي (شيزار لمبروزو). وقد اتجهت هذه المدرسة إلى البحث عن أسباب الجريمة في التكوين الجسماني للمجرم فركّزت اهتمامها في دراسة المجرمين من الناحيتين التشريحية والعضوية. وكان (لمبروزو) أستاذاً للطب الشرعي بجامعة تورين وعمل في خدمة الجيش الايطالي فترة من الزمن لاحظ خلالها انتشار الوشمات والرسوم القبيحة على أجسام الجنود المنحرفين في مقارنتهم بالجنود الأسوياء. وقد دفعه هذا إلى دراسة الخصائص العضوية للمرضى ثم للمجرمين، فلفت نظره بصفة خاصة وجود شذوذ في التكوين الجسماني لعدد من مرتكبي جرائم العنف. ثم قام بفحص جماجم عدد كبير من المجرمين فلاحظ عليها شذوذاً في الأسنان وفي حجم الجمجمة وشكل الجبهة. وبمقارنة هذه الجماجم بجمجمة الإنسان البدائي وبجماجم بعض الحيوانات المتوحشة انتهى (لمبروزو) إلى أن المجرم الحقيقي هو "المجرم بالفطرة" أي ذلك الإنسان الذي يولد مجرماً بطبيعته بناء على ما ورثه عن أصله الأول من خصائص أو علامات بيولوجية معينة هي التي تدفعه ن طريق التفاعل مع شخصيته إلى ارتكاب الجريمة. وحاول (لمبروزو) أن يحدّد خصائص هذا الجرم في كتابه عن "الإنسان المجرم" الذي أصدره في سنة 1876(33).
ومما لا شك فيه أن (لمبروزو) كان له فضل كبير في إنشاء وازدهار علم الإنسان "الانثربولوجيا" حيث قسٌم المجرمين إلى طوائف بحسب اختلافهم في أوجه النقص محاولاً دراسة خصائص كل مجموعة وبيان الصلة بينها وبين السلوك الإجرامي. وبذلك يعتبر المنشئ الأول لعلم الطبائع الإجرامية، كذلك لا يجحد فضله في الدعوة الى اتخاذ التدابير الوقائية لحماية المجتمع من جريمة يرجح احتمال ارتكابها. إلا أن (لمبروزو) قد جانبه التوفيق حين قصر موضوع بحثه عن أسباب الجريمة على شخصية المجرم، وأغفل كل تأثير للعوامل الاجتماعية التي لا يمكن إغفال قوتها الدافعة إلى السلوك الإجرامي، فضلاً عن تأثيرها في نفسية الشخص وعاداته وطباعه(34).
أنريكو فيري صاحب قانون "الكثافة الجنائي"
وإزاء الانتقادات التي وجهت إلى (لمبروزو) ظهر تلميذه (أنريكو فيري) وحاول إبراز أهمية عامل البيئة في خلق الجريمة، فذهب في كتابه "علم الاجتماع الجنائي" الذي أصدره في عام 1884 إلى أن الجريمة خلاصة تفاعل أنواع ثلاثة من العوامل هي:
العوامل الطبيعية والجغرافية كالجنس والمناخ والموقع الجغرافي وتأثير الفصول والحرارة.
العوامل الانثربولوجية ويدخل فيها السن والنوع والخصائص العضوية والفسيولوجية.
العوامل الاجتماعية وتشمل كثافة السكان والعادات والعقائد والتنظيم السياسي والظروف الاقتصادية... الخ.
ومن هذه العوامل الثلاثة ينشأ ما سماه (فيري) "قانون الكثافة الجنائي" ومؤداه أن اقتران عوامل أنثربولوجية معينة بظروف اجتماعية معينة وعوامل طبيعية وجغرافية معينة ينتج عدداً معيناً من الجرائم لا يمكن ارتكاب لا أكثر ولا أقل منه. وخلص (فيري) من ذلك إلى أن الجريمة نتيجة حتمية لعوامل معينة بحيث إذا توافرت هذه العوامل بالنسبة لشخص ما فإنه يجد نفسه مسيّراً إلى ارتكاب الجريمة. لهذا فإن الإجراء الذي يتخذ قبل المجرم لا يمكن تأسيسه على فكرة المسؤولية الأدبية- إذ هذه الفكرة تفترض حرية الاختيار- وإنما على حق المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد الجريمة أياً كانت أسبابها وذلك بمحاولة القضاء على هذه الأسباب(35).
جاروفالو صاحب تسمية "علم الإجرام"
يعتبر العالم الايطالي (جارو فالو) أحد مؤسسي علم الإجرام الوضعي، بل أنه يعد أول من استخدم مصطلح علم الإجرام جاعلاً منه عنواناً لكتابه الصادر في تورينو عام 1885. وقد عني (جاروفالو) بالتعريف الاجتماعي للجريمة رافضاً الأخذ بالتعريف القانوني. وقد خلص إلى تقسيم الجرائم إلى طائفتين هما الجرائم الطبيعية والجرائم الاصطناعية أو الاتفاقية. فالجريمة الطبيعية هي كل سلوك يتعارض مع الشعور بالشفقة والأمانة. والمجرم بدوره هو الشخص الذي يتصف بأن مشاعر الغيرية لديه ليست سليمة، فلم تنضج إلى الدرجة التي تتوافر لدى الشخص الطبيعي في المجتمع. والحق أن (لجاروفالو) يرجع الفضل في ضبط وبلورة المفهوم الاجتماعي للجريمة(36).
وحاول (جاروفالو) الربط بين السلوك الإجرامي وبين الخصائص الخلقية والعضوية في شخصية المجرم. وذهب إلى أن العيوب التي تتوافر في عظم الفك السفلي تعد دليلاً على العنف والوحشية، وأن الجزء الخلفي من الرأس يمتاز عموماً لدى المجرمين بزيادة في النمو عن الجزء الأمامي. إلا أنه قد أخذ تلك النتائج بتحفظ. حيث لم يثبت من الناحية العلمية أن الخصائص البيولوجية التي بنى عليها (لمبروزو) نظريته تتوافر دائماً لدى كافة أنماط المجرمين.
ومع ذلك فلم يتوقف (جاروفالو) عند إبراز الصفات العضوية لدى المجرم، بل وجه اهتمامه أيضاً إلى فكرة الشذوذ النفسي أو الخلقي واعتبرها تفسيراً للظاهرة الإجرامية، وأكد انتقال هذا الشذوذ بالوراثة. فالمجرم لديه ليس فحسب تكويناً خلقياً شاذاً بل هو كذلك نفس شاذة تفتقد إلى الورع والأمانة. ويعد تخلف الورع فيها مصدراً لجرائم الدم، وتخلف الأمانة مصدراً لجرائم المال. وقد قسّم (جاروفالو) المجرمين إلى طوائف أربع طبقاً لدرجة الشذوذ الخلقي وهم: 1. القاتل، 2. المجرم بالعنف، 3. اللص، 4. المجرم الشهواني. وقد اقترح (جاروفالو) طائفة من التدابير التي تناسب كل صنف من الجناة الهدف منها تأكيد حماية المجتمع بصفة أصلية، وتقويم سلوك الجاني مستقبلاً بصفة تبعية. وترتبط كافة هذه التدابير بدرجة الخطورة التي تفصح عنها شخصية الجاني لا بالجسامة الموضوعية للفعل الإجرامي نفسه(37).
هانز جروس أول من أنشأ "معهد إجرامي"
وفي النمسا أيضاً ظهرت إرهاصات مدرسة خاصة لعلم الإجرام على يدي (هانز جروس 1847-1915) الذي كان مدعياً وقاضياً ثم أستاذاً للقانون الجنائي في جامعة جراتز والذي أنشأ "المعهد الإجرامي" هناك منذ سنة 1912 بهدف دراسة جميع أنظمة علم الإجرام المختلفة. وتتميز آراء (هانز جروس) بأنها تنظر للمجرم كوحدة نفسية ينبغي أن تقوم دراستها على ملاحظة كل حالة فردية بكل خصائصها، مادام أن المجرم لا يوجد "كنموذج أنثربولوجي موحد" كما يراه (لمبروزو)، ولا "كإنسان متوسط" كما يراه (كيتيليه). كما تتميز بمحاولة الربط الوثيق بين أحكام التشريع العقابي التي تكشف عنها علم الإجرام(38).
ولعل من أهم ما يميز هذه المدرسة النمساوية لعلم الإجرام هو أن جميع روادها من أساتذة القانون الجنائي، وفي ذلك تختلف عن المدارس الفرنسية والايطالية حيث نجد العدد الأكبر من هؤلاء الرواد من علماء الاجتماع أو من الأطباء. وقد كان (لهانز جروس) فضل إدخال علم الإجرام كمادة أساسية في جامعة جراتز.
ومنذ سنة 1923 حذت جامعة فيينا حذو جامعة جراتز في شأن كيفية تدريس علم الإجرام، وقد حسمت بهذا الحل الخلاف الذي أثير أحياناً حول الجهة المختصة بمباحث علم الإجرام، وهل ينبغي أن تكون هي كليات الحقوق أم الآداب أم الطب؟ وذلك لأن موضوعات علم الإجرام بمفهومه الحديث تنتمي إلى أوجه نشاط علمية متعددة تتبع هذه الجهات الثلاث في وقت واحد، وربما بنفس المقدار، ولكن جدواه للمشتغلين بالعدالة الجنائية تبدو أقوى بكثير من جدواه لغيرهم، حتى ليمكن اعتباره حجر الأساس الآن في كل عدالة تستحق هذا الوصف(39).
وقد تتابعت بعد ذلك مجهودات العديد من العلماء الذين قاموا بدراسة أعمال رواد المدرسة الوضعية، فظهرت نظريات جديدة أكثر التزاماً بمنهج البحث التجريبي، وأكثر شمولاً في تفسيرها للسلوك الإجرامي. وساهم كذلك في تطوير وإثراء الدراسات الإجرامية ما يمكن تسميته بحركة تدويل علم الإجرام حيث اهتمت الجمعيات والمنظمات الدولية ببحث ظاهرة الجريمة على مستوى العالم كله(40).
فالقرن العشرون تميز بتوحيد الجهود السابقة التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر في دراسة وتحليل الظواهر الإجرامية ووضع قواعد علم الإجرام، فأنشأت هيئات علمية مختلفة، وأنشئت الجمعية الدولية لعلم الإجرام في عام 1934، ثم انعقدت مؤتمرات دولية كان أولها في روما عام 1938، ثم في باريس عام 1950، ولندن عام 1955، ولاهاي عام 1960(41)، وما زالت هذه المؤتمرات حول علم الإجرام والجريمة تعقد حتى اليوم في دول العالم.
باختصار...
باختصار، يتبين من المراحل التي تطوّر فيها علم الإجرام أن كل عالم أو باحث اتخذ وجهة معينة تعمّق في دراستها على حساب الوجهة الأخرى. فقد طغت لدى البعض دراسة الإنسان وتكوين أعضائه على دراسة العوامل الاجتماعية. كما طغت لدى البعض الآخر دراسة العوامل الاجتماعية على العوامل الشخصية. ولما كانت دراسة ظاهرة تتطلب دراسة عواملها المختلفة بقدر متساو من الأهمية فقد دعا البعض في أوائل القرن العشرين إلى إنشاء علم جنائي جديد تُدرّس في نطاقه جميع العوامل التي تسبب الجريمة من عوامل تكوينية عضوية ونفسية وعقلية إلى بيئية، على أن يستعان في ذلك بدراسة العلوم المختلفة مثل الأنثربولوجيا الجنائية، وعلم الاجتماع، وعلم الطب بما يشمله من دراسة الأمراض العقلية وعلم وظائف الأعضاء، ومثل علم الاقتصاد والجغرافيا والإحصاء والتحليل النفسي الذي يلقي الضوء على الدوافع الخفية للسلوك الإجرامي(42).
وهكذا نشأ علم الإجرام في صورته الحديثة بعناصره المتكاملة. ثم قررت كثير من الجامعات تدريسه كمادة أساسية فيها، وخاصة كليات الحقوق في فلسطين والأردن.