أنت هنا

قراءة كتاب كان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كان

كان

كتاب " كان " ، تأليف زياد صلاح ، والذي صدر عن دار موزاييك للنشر والتوزيع ، نقرأ من اجواء الكتاب :

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

صوت الحياة.. صدى الموت...

(هو):

للمرّة الأولى في حياته، أحسّ "شاهد" بأنَّ الموت يقترب من أطراف أصابعه.. حتى يكاد يلمسه دون أن يراه.

قالت إحدى يديه للأخرى: الميت لا يتذكّر.

ردّت الثانية معقّبةً: وهو أيضاً لا ينسى.

كان ذلك إثر خبرٍ صاعقٍ جاءه عبر الهاتف، فاخترق أذنه اليسرى.. دون أن يخرج من الأخرى.

لقد مات والده واقفاً على رأس عمله، كما تموت النسور على قمم الجبال.

بيد أنه لم يعمّر مثلها فيبلغ المائة عام.. ولم يفعل كما تفعل حين تشيخ.. فتطير إلى أقصى ارتفاع يمكن أن تصل إليه.. ثم تتوقف عن التحليق.. وتفقد عامدةً الإحساس بأجنحتها.. فتهوي على قمم الجبال مرتطمةً بها بقوّة!

إنها تنتحر بهذه الطريقة لشدّة اعتزازها بنفسها.

فالعزّة التي لم يكسرها الضعف.. هي التي أفضت إلى الموت الذي لم يمنعه الخوف.

لكن "سميح" والد "شاهد"، كان يملك من الإيمان ما يملك عليه قلبه.. ويمدّه بالرضى عن مصيره.. ويحول بينه وبين مثل تلك النهاية المأساوية المحبوكة بأنفة النسور وكبريائها.

تحت شجرة صنوبرٍ باكية، وأمام البوابة الخارجية لمقبرة سحاب في الجنوب الشرقي للعاصمة، وقف مطأطأ الرأس.. عابساً.. محزوناً.. ومستهيلاً وقع الصدمة ووجع الفقدان.

في تلك الأثناء، رأى حارس المقبرة الذي يقف هناك، مترقّباً وصول المزيد من الجثامين إلى مثواها الأخير.

طال صمته المشبع بأحاسيسه الرماديّة.. قبل أن يخاطب ذلك الحارس بعينيه الدامعتين.. ودون أن يتفوّه بكلمةٍ واحدة:

- مسكين أنت أيّها الرجل.. تحرس الموتى.. كما لو أنك تطرد عنهم شبح الحياة.. وتدافع عن حقّهم في ألاّ يختاروا موعد رحيلهم عن هذا العالم.. إلى العالم الآخر.. والأخير... دون موافقة أحدٍ من ذويهم، أو إذنٍ من أيٍّ من رؤسائهم في العمل. وبلا تأشيرةٍ للغياب.. أو تذكرةٍ للسفر إلى المجهول...

إنَّ الموت.. ذلك الأب الشرعيّ لكلّ المجاهيل.. هو الذي يحرسك أيها الحارس.. ويطرد عنك وساوس الشياطين الذين ليس لهم عمل يقومون به هنا.

والموتى هم الذين يتناوبون على حراسة ما في داخلك من رضى وتسليم.. وقبولٍ بهذه المهنة التي تشرف فيها دائماً على الموت دون أن تموت...

كأنَّ الدنيا بالنسبة إليك، تبدأ وتنتهي عند هذه البوابة، التي يدخل الموتى منها إلى خارج الدنيا...

هكذا نحيا في هذا العالم.. باحثين عن مدخلٍ لكل مخرج...

وعندما يداهمنا موت سوانا.. فإننا نصغي مرغمين إلى صوت حياتنا الذي لا يعدو على أن يكون صدىً للحنٍ جنائزيٍّ حزين...

مرّةً أخرى.. يعود إلى صمته.. فلا يبدّد ذلك الصمت.. إلاّ سحب الغبار المتطاير من حيث ووري والده الثرى.. فتذرف عيناه دمعتين ملتهبتين.. سرعان ما تنزلقان عن شاهد القبر الحجريّ.. وتنسربان تباعاً إلى باطن التراب.

قرأ الفاتحة مع جمعٍ غفيرٍ من المشيّعين، وظلّ وحده بصحبة الموت، بعد أن عاد الجميع إلى الحياة.

وفي جملةٍ شديدة الاعتراض.. استحضر مقولة معلّم الكيمياء في المرحلة الثانوية "بكليّة الحسين":

- "إن الموت ليس تجربة.. حتى لا تكون الأخيرة"

الصفحات