أنت هنا

قراءة كتاب ما وراء الجسد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ما وراء الجسر

ما وراء الجسد

كتاب " ما وراء الجسد " ، تأليف ميرفت جمعة ، الذي صدر عن دار موازييك للترجمات والنشر والتوزيع ، نقرأ من اجو

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

وكانت محقة، وحدة كثيفة، شبكة من الوحدة تعانقت خيوطها على جسدي، وحدة قوية الحضور زاد من استعارها سفر متكرر طويل لأمي بحكم عملها، كانت الوحدة كالعادة تتربص بي فتمسكني بسهولة كغزال وقع في فك نمر جائع، وحدي كنت في صحراء الحياة دونك؛ كهاجر حين تركها النبي إبراهيم وصارت تلاحق السراب بين الصفا والمروة، كحوّاء حين نزلت على الجهة المقابلة من هذه الأرض محاطة بالوحوش، وبدأت تقطع البحار والوديان والمحيطات بحثاً عن آدم باكية، فأرضعت الأنهار والينابيع، شريدة تلقت قسوة الطبيعة بأعاصيرها وزما زلها وبراكينها وضباعها وموتها.

بقيت سنوات أقبع مرتجفة في قلب خيمة الوحدة العاصفة، حتى صرت أعيش حياتي بلا متعة، تزوجت شعوري بالوحدة زواجاً لا فكاك منه، صار يوقظني ليلاً، يمارس بسادية كل جنونه، وحين يطرحني أرضاً و يتأكد أنني غير قادرة على الحراك قربه يدير ظهره ويختفي، استعداداً لجولة أشد شراسةً.

مع ذلك فإن أمي قد عاشت حياة منظمة، وتزوجت بشكل طبيعي، ولم تغامر يوماً، وفقدت أبي، إنه قدر أحياناً وعلينا ألاّ نربط أقدامنا بأيدينا ثم نقول لا نستطيع الحراك، فقلت أعيش اللحظة وإن حان دور القدر ليحكم بيننا سأتعايش معه، إلى أن قُتِلت، موتُكَ جاء مدوياً، سقطتُ أرضاً، وركضت أمي بي إلى أبينا ليدهن جسدي المرتجف بزيت أمنا العذراء، تحدث إلي طويلاً بصوت خفيض رتيب، ثم نصحني أن أرتمي طويلاً بحضن الكنيسة، لكني ارتميتُ بحضن الفراغ، وكان ملاذاً بعيداً منفياً لا يستدل عليه أحد.

وعادت أمي وافتعلت الكثير من المصادفات التي يطل بها علينا عريس الغفلة بكامل أناقته، ويطرق جرس قلبي فتصعقه كهرباء الأسلاك المقطوعة، فيهرب، أما الوحدة فصارت حليفتي وظلي الذي يظل يعتذر باسمي عن تلبية دعوات الحياة، لم أندم يوما يا يوسف ما زلت مصرة على أن الحياة لا يجب أن تؤخذ على أنها مسلّمات في صندوق، عليه اسمك، واسمي واسم كل واحد فينا، هي ليست قرعة، ما كان يمكن ألاّ يكون اسمك في قرعة العائدين، وما كان يمكن أن يخطئ مسؤول الولادات ويسجلني لأم مسلمة، ومحال ألاّ تموت ذلك اليوم، اخترت نفس الجامعة وكان أمامي خيارات كثيرة، لكن لا يا يوسف لا شيء في الحياة يحدث صدفة هي خطة، أردتك قبل أن تراك عيناي، فصّلت أحلامي بصبر صانعة الفخّار، كتبت لنا قصة كنت بطلها الذي سيظهر في الفصل الأخير، كان الدور بمقاسك تماماً ، ورسمت على أوراقي وجهاً عبأته تفاصيلك حين حضرت، إنما كنت أجهل النهاية إلى أن تم إخراج المشهد، ولم يكن بيدي حيلة، أصبحت متفرجة لا أكثر، خلق الله الحياة محجوبة المستقبل لنتخيل، ونفكر، ونتأمل، ونتفاجأ، ونندهش، ونكتشف اكتشافاتنا العظيمة، لكنها مقررة لنا منذ البداية، إنما المتعة في البحث عنها وملاقاتها واصطيادها من قلب الغامض، أعظم اكتشافاتنا خلقتها التجربة، لسنا ملائكة تؤدي دوراً محدداً نبيلاً ورتيباً وتختفي، نحن نجرب فنخطئ ونضل ونعود بالليل نتلمس طرق العودة. لم أندم أنا فقط أشعر بالوحدة، لكن كل ذلك تغير ليلة أمس، قبل أمسِ كنت أشعر بالوحدة كلاجئةٍ سرقوا موطنها ووضعوها في الفراغ الممتد كصحراء، فلماذا حدث ذلك ليلاً لست أدري.

الآن، فجأة، حين صمت خوليو أحسست أنه يعرّيني في حضرة الصمت، صمت خوليو هو الذي خلق المشكلة، صمت الأشياء بعد حياتها، أن تتوقف المتعة فجأة، تماماً مثل الأفعوانية في مدينة الملاهي لو تتعطل قبل القمة بشهقة، أو كطفل حمله أبوه يلاعبه فألقاه في السماء وفشل في تلقّفه، والطفل بال يسلّم نفسه بشكل كلّي للفرح، أبي تحديداً طيّرني في السماء ولم يتلقفني، تلقفه الغياب، وبقيت مذعورة بعده سنوات طويلة من حياتي، وأنت جئت بعد ذلك بسنوات تطلب مني في رحلة ذهبناها معاً إلى الجبل، أن أسلّم نفسي لجنون الأرجوحة، لم أستطع حينها أن أبوح لك، أنني منذ زمن طويل تدربت على ألاّ أفرح بطفولة مفرطة، علي أن أفرح نصف فرح، ولكن سأهمس لك أن رحلتنا تلك جعلتني أعود للمنزل بنصف عقل وبدون قلبي، كان مخطوفاً كله، تلك الليلة نمت بعمق وسلّمت نفسي بشكل كامل للحلم، سمحت لنفسي أن تزف إليك، لم أنتبه إن كان ذلك تم في كنيستي أو بعرس إسلامي أو حتى في مغارة منسية لا يهم، لبست ثوباً أبيضَ استعرته من خزانة مهملة داخل روحي خبأت فيها أثواب طفولتي وثوب عرسي، ولم أرتدِ يا يوسف هذا الثوب مرة أخرى، كنت بعد ذلك إشبينة الكثيرات، أحمل خواتمهن، أمسك بأطراف الثوب الأبيض، كنت أسمع خفقات قلوبهن، كنت أرى البريق يا يوسف وشهدت الفرحة الكاملة والتي كانت تتوج بقبلة طويلة علنية، كنت أتلذذ برؤيتها تتلألأ في عيون العرائس، كنت قريبة جداً من الفرحة، إلاّ أنني لم التقطها مثلهن، فحبك سريّ ومستحيل، يستعصي على البوح لكنه يشع في العيون، كم كنت وحدي يا يوسف، وكم استحضرتني في الأعراس أشعار درويش المحببة لقلبك، كنت تهمس لي حين تتماوج في عينيَّ الفرحة بالبكاء:

تكونين حريتي بعد موت جديد

أحبّ

أجدِّد موتي

أودِّع هذا الزمان و أصعد

عيناك نافذتان على حلم لا يجيء

لماذا أحبكَ؟

من أجل طفل يؤجل هجرتنا يا مريّا

سأهديكَ خاتم عرسي

سأهديكِ قيدي و أمسي.

أشعر باللهفة وأنا أمارس هوايتي المفضلة، صنع فنجان رائع من القهوة يليق بهذا النهار، الذي سينقلني إلى مجرة أخرى خارج قوقعتي، سعادة غامضة، عصية على التفسير كهذه القهوة حين تجوب في أوردتي وتفتح الطرقات المغلقة. اليوم مساءً سأتحرك خطوة واحدة خارج دوامة الوحدة، سأزيح عن نفسي هذه البطانية الخشنة وأتعرض للقشعريرة، وأدع الهواء يتخلل خصلات شعري، وسأترجم هذا الهاتف السماوي الذي تلقيته ليلاً. أنا لأول مرة منذ سنوات على موعد مع شيء..!

الصفحات