كتاب " ما وراء الجسد " ، تأليف ميرفت جمعة ، الذي صدر عن دار موازييك للترجمات والنشر والتوزيع ، نقرأ من اجو
أنت هنا
قراءة كتاب ما وراء الجسد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وابتعدت بلا هوادة في محاولة مني لإرضاءِ نفسي، عشت بعدك سنوات طويلة أفاصل الزمن مدهوشة لاستفزاز الوقت، لإحساسي المكثف بالزمن بعدك، أنت لا تعرف الفقدان مثلي، حسنا أنا آسفة، أنت تعرف الفقدان جيداً؛ لأنك عشت في المنفى، ولأنك فقدت بقية حياتك، لكن أنا فقدتك إجبارياً، أنت اخترت إبعادي إلى جزر الحزن، جئتك مبتورة الأب، طفلة تعلمت المشي حديثاً رفعت يدي لكتفك ونهضت مبتسمة أزيح الدموع، وكلما اتضحت الرؤيا كان حضورك يصير مغبشاً، وكلما تعكزت عليك هويت أرضاً، إلى أن اختفيت بشكل كلّي. أتذكر يا يوسف في رحلة الجبل كيف رفعتني فوق غصن قوي لشجرة توت، مددت يدك من فوق ورفعتني، لأقل من ثانية أعدت إلي مشاعر كنت فقدتها منذ زمن بعيد، تذكرت كيف كنت أدّعي النوم في منتصف الطريق ليحملني أبي، عشقت شكل البيوت والأشجار والشوارع وهي تهتز، وأنا على كتفه، إحساسي بالأمان، بالقدرة على الطيران، لم أقل لك إنك في أقل من ثانية أعدت إلي كل ذلك، وما إن وصلت إليك حتى نضجت كحبات التوت، أصبحت امرأة بل أنك قلت حورية، نحن نصبح أجمل في لحظات السعادة القصوى يا يوسف، لكن تلك السعادة رملية سريعة الاندثار، حتى أننا غير قادرين على الإمساك بها لأقل من ثانية، بعكس الحزن بمعدنه الفولاذي، وحضوره ثقيل الظل، الذي يكسو وجهنا بالذبول والتعب، وأنا حاولت أن أحتفظ باللحظة، لكنني خفت منك ومني، خفت من الشيطان الذي كان يتسلق شجرتنا، فدليت نفسي بهدوء إلى أن نزلت إلى الأرض، دون أن نتذوق التوت، هكذا كانت علاقتنا مجرد لحظات متناثرة في جسد يوم طويل، فقدانك يعيد إلي فجيعتي بأبي، رحيلكما علّق جسدي في الفراغ جائعاً لعناق غير مكتمل، وروحي بحثت عنها ولا أعرف أين تبيت ليلاً، هذه الزهرة يا يوسف هي زهرة النسرين بيضاء ناصعة خجولة كأنثى بوجنة حمراء، ترتبك كلما رأت الشمس اخترتها يا يوسف لأنها أنثوية لها طباع خجولة كما تحب أنت الأنثى، أترى هذه الزهرة، أتشم رائحتها؟ هذه تسمى الأوركيد، وهذه الزهرة قديمة جداً أطلق عليها فيلسوف صيني "زهرة عطر الملوك" عطرها يشبه رائحة الفانيلا، وهل ترى الفراشات حولي؟ لا أدري ما بالها تنظم حفلاً مبهجاً في هذا المكان الهادئ، كم كنت خائفة أن يكون لقاؤنا فاجعاً، لكن رحمة ما تنسل من بين القبور والزهور، لطالما شعرت بقرابة دموية بين الشهداء والورود، قبرك يعطي الإنسان شعوراً بالرضى والتسليم والتصديق، يوسف دعني أغني لك أغنيتك المفضلة كما كنت ترجوني كلما كنا وحدنا:
زيديني عشقا زيديني يا أحلى نوبات جنوني زيديني
نوّارة عمري مروحتي قنديلي فوح بساتيني
مدّي لي جسراً من رائحة الليمونِ
وضعيني مشطاً عاجياً في عتمة شعركِ وانسيني
من أجلكِ أعددت رثائي وتركت التاريخ ورائي
ما أجمل الاستلقاء فوق قبرك، أتراني تغيرت يا يوسف، ربما كبرت قليلاً، روحي شاخت لكنني احتفظت بلون القهوة في عينيَّ، مازال صوتي ببحته وخجله، ربما ما زلت أشبهني لكن أقل امتلاءً، أترى هذه الزهرة؟ لا بد أنك تعرفها جيداً، هذه من بين الزهور التي وصلتني منك بالحلم زهرة الجاردينيا البيضاء تعرفت عليها عن قرب بعد أن رأيتها في المنام وكانت صفاتها تليق بحبنا، فهي ترمز إلى الحب السري لقد كان اختياراً موفقاً. كم كنت تحب الزهور أتذكر حين كنا جالسين مرة بين رفوف المكتبة والصمت عريف المكان وحفيف أوراق الكتب يعزف حولنا، وكنت أرتدي ذاك القميص الأبيض الشفاف حين وقع أرضاً زر مشاغب وأنا منكبة على قراءة غلاف رواية جديدة لباولو كويلو، وضبطت عينيك تتوغل داخل جسدي، يومها قلت لي بصوت هامس: أتعرفين أنك تشبهين زهرة أحبها!
كنت دائماً أشبه شيئاً تحبه لكن لم أعرف أتحبني أم أذكرك دوماً بشيء في خيالك تحبه، قلت إن عينيَّ تذكرك بشمس، وكان بي ملامح من أمك، واتضح لاحقاً أنني كنت أشبه مرح كما قلت لي وأنت تعترف بحبها وتقول لي إمعاناً في القتل أنك انجذبت إلي لشبه بيننا، أما هذه المرة فأنا أشبه زهرة، أو أنك تنسب الأشياء لي بالشبه لتجد مبرراً لكل تعلقك بي؛ سألتك بلهفة:
- وما هي ؟
-البنفسج أو زهرة التواضع كما يسمونها؛ لأنها تخفي أزهارها بين أوراقها مثلك يا إيلين!
-أنت لا تعرف يا يوسف كم تحب الفتيات أن تتشبه بالزهور سأذكر هذا دوماً كلما أردت أن أشعر أنني جميلة!
-أنت جميلة ومغرية مثل هذه الزهرة التي تبعث خيالات الأشياء فينطلق دب الأفكار المجنونة في رأس أي رجل يراك!
-ألا ترى أنك تبالغ ؟! ثم أنك تخيفني بتشبيهاتك الرجولية هذه!
-بل أنت متواضعة تماماً كالبنفسج!
قلت في قلبي أليس هذا أوان اعترافك بالحب، إلى متى هذا التلويع وأوراق الزهرة تنكمش على نفسها أمام كل اعتراف تخنقه بقلبينا.
-تروي أسطورة إنجليزية أن ملك الثلج شعر بالوحدة في قصره الجليدي حيث كل شيء صامت وجامد، فبعث جنوده للبحث عن فتاة جميلة تدخل الدفء والسعادة إلى قلبه.