كتاب " باب الليل " ، تأليف وحيد الطويلة ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
كلّ شيء يحدث في الحمّام،
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " باب الليل " ، تأليف وحيد الطويلة ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
كلّ شيء يحدث في الحمّام،
كلّهم يغشونه، يرمون شباكهم أمام مرآته، يعقدون صفقاتهم، تغمز صنانيرهم، ويرتفع خطّاف هنا وهلب هناك. وعندما يعودون لمقاعدهم، يطلبون بعضهم سريعاً في الهواتف، يتواعدون على اللقاء خارج المقهى، ينطلقون متعجلين بسياراتهم وصوت العجلات يصل عالياً إلى الداخل، لينجزوا الفصل المقدس من المهمة.
كلّ شيء يحدث في الحمّام، كلّهم يزورونه، إلا مجيد لا ينتظر حماماً ولا بولاً ولا يحزنون.
بعين الخبير يختار، وهو واقف، طاولة الحظ السعيد، معمّرة عامرة بالنهود، يحرص على أن يجلس قريباً منها من أية زاوية، ملاصقاً لها إن وجد فرصة، ينتظر لحظة ظهور فاتورة الحساب، ينتظر بصبر لا ينفد، يراقب بعين متيقظة خفيضة الجفن النادل الذي يحملها، فجأة يقفز كنمر جائع ويخطفها من أمام الجماعة، يصّر على دفع الحساب وينهي المسألة فوراً دون أن يكترث لنظرة اندهاش تنـزاح فوراً لتحلّ محلها نظرات امتنان وأماني.
يجب أن تذهب معه اثنتان، واحدة لا تكفيه، قنّاص الفواتير في المقهى، وكبير القنّاصين في السرير، يشير من طرف عين وهو يبتسم ساخراً إلى عضوه وبصوت مرتفع تخالطه النشوة:
- أبو جميل يسلّم عليكم.
تذهبان معه، حيث يعيش وحيداً منذ عشرين عاماً، لتؤنسا وحدته، يقدم لهما العشاء كأميرتين، يأكلون ويشربون وحين ترتفع الأدمغة يسخنون ويخلعون، يرتطمون ويلهثون، وحين لا تجدان جميلاً ولا أباه لا تختلف المسألة، شربتا وقبضتا، ولا تختلف عنده أيضاً، شرب ودفع.
يعود في اليوم التالي يخطف فاتورة أخرى كصقر ويدفع الحساب كعصفور.
يبحث عن واحدتين تحيطانه من جانبيه المتسعين، كأن شيئاً لم يحدث، يضحك من نفسه بصوت عال:
- أبو جميل في إجازة، من يجده يخبرني عنه.
لا تقلق، الذين يفكرون في الصيد سيحالفهم الطقس، والذين لا يفكرون لن تعود سيقانهم وحيدة أو جيوبهم خاوية، الشباك مفرودة، السمك ينط وحده يعرف طريقه وصنّارة صياده.
اطمئن، الشتاء بارد هذا العام كعادته والدفء فرض عين، البنات هبطن الواحدة تلو الأخرى كأنه قمقم وانفتح، في ظرف نصف ساعة كان المقهى قد فاض واكتمل عن ﺁخره.
رجال وصبايا من كل فجّ عميق، اسمه مقهى "لمة الأحباب"، تقول صاحبته إنها أسمته هكذا براحاً واسعاً وحفاوة بالجميع، يقول الخبثاء: لتسحب أرجل كلّ العابرين والمقيمين ليحضروا ويدفعوا بمزاجهم.
البعض يسمونه مقهى "الأجانب"، يعج ببقايا فلسطينيين بقوا هنا مرغمين بعد أن غادر الجميع تقريباً إلى رام الله مع ياسر عرفات بعد اتفاقية ﺃوسلو. الذين رفضوا تفرقوا في شتات البلاد وراء رزق أو عائلة أو دولة ترحب بهم أو أي مكان أوسع من رام الله وغزة.
بقايا لم يجدوا أسماءهم في كشوف السلطة الفلسطينية. في القوائم الإسرائيلية كانوا ومازالوا، ممنوعين من العودة، أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين، وأرواحهم ملعونة أيضاً، وعليهم إن تنفسوا أن يفعلوا ذلك في مكان آخر يستحسن أن يكون قبراً سحيقاً في جوف الأرض.
رحل الجميع وتركوهم كما لو كانوا مصابين بالجرب.. أسماء مكتوبة بالأحمر في قوائم إسرائيل. مشطوبة بالأحمر في كشوف الفلسطينيين.
رحلوا دون أن يتذكروا مهمة التوديع، ولو بأحضان مرتبكة.
حُشروا هنا، لا علم يستظلون تحته، لا أرض ولا عشيرة، لا ضفة يقفون عليها ليلوّحوا لأي قبطان أو شيطان.
حُشروا وبقوا محشورين من وقتها في أحلامهم البطيئة الكسولة وكوابيسهم السريعة.
على الطاولات دائماً ليبيون عابرون يقضون أياماً أو أسابيع، يطيرون ﺇلى تونس للسياحة.. تونس قريبة وجميلة.. فيها كلّ شيء، يقول واحد منهم ويلعب بحواجبه ولسانه. بضعة مصريين وواحد من الخليج، سوري أو لبناني أتى للتجارة أو ربما هرباً من رصاصة أو قضبان من حديد في دولته، كلّ واحد يحمل بين ضلوعه حكاية يبحث عن واحدة يحكيها لها.