كتاب " المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث " ، تأليف عبد الواحد ابن ياسر ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث
والمسلم لا يغفل أو يجهل قيمة الفنون، وإنما يعتبر العالم أجمل من الخلق الفني، وأنه بمثابة آلة يحرك خيوطها الله الخالق. والدراما بالنسبة للإنسان الغربـي توجد في الشخصيات وفي حريتها، لكن هذه الحرية عند المسلمين مشروطة بالإرادة الإلهية، وليسوا هم أنفسهم سوى أدوات بالنسبة لله. هناك إذن دراما عند المسلمين، لكن في مسرح العرائس، وهذا شيء بسيط وعميق في الآن نفسه. والفن الإسلامي يرتبط بنظرية تمثل العالم عند الفلاسفة المسلمين، حيث لا يوجد في العالم أشكال في ذاتها أو صور في ذاتها، وإنما البقاء والدوام لله[6].
وإذا كان (ماسينيون) لا يتحدث صراحة عن المسرح، وإنما يعني بكلامه فن التصوير، إلا أنه يعتبر المسرح جزءا لا يتجزأ من فنون التشخيص، وبالتالي يصدق عليه ما يصدق على فنون التصوير. كما أن الخوف من التصوير لا يقتصر فقط على الإسلام وحده، وإنما نجده أيضا في اليهودية وفي المسيحية. جاء في سفر (الهجرة) في "العهد القديم" من الكتاب المقدس: "لن تصنع أبدا صورا منحوتة، ولا تماثيل الأشياء التي في السماء أو على الأرض أو في المياه في أعماق الأرض". ثم إننا لا نعثر على إجماع حول مسألة تحريم التصوير من قبل فقهاء المسلمين، بل نجد اختلافا كبيرا في وجهات النظر بينهم، فقد قال بعضهم بشرعية التصوير، وذهب البعض الآخر إلى درجة تحريم مجرد التخييل أو التشخيص بواسطة الظلال. ومهما يكن فإن تحريم التصوير (La figuration) لم يمنع من ظهور فن تصوير عربـي إسلامي أصيل يعتبر التمهيد الحقيقي لفن التصوير الحديث عند العرب[7].
لذلك، فبعد أن يعرض (ماسينيون) أهم مواقف المدافعين عن التصوير ومواقف خصومه في الإسلام، يخلص إلى القول بأن خصوم التصوير لم يكونوا يقصدون إلى القول بتحريمه، لأن الإسلام لم يمنع الفن وإنما يمنع التمجيد الذي يصل درجة التقديس والعبادة.
وينطلق (كوستاف فون غرونباوم) من فكرة أساسية مفادها أن الإسلام يجهل الشعائر بمدلولها الهيليني والمسيحي، وأن الشعائر المسيحية يوجهها الخيال في حين أن الشعائر الإسلامية تخضع للانضباط والامتثال، وأن الأولى تمسرح الأسرار (Les mystères)، في حين أن الثانية تجهل أصلا الأسرار. وليس في الإسلام تمثل أو عقيدة للخلاص (une stériologie) كما في المسيحية، فسقوط الإنسان هو نتيجة انقطاع العهد الذي يقضي بطاعة المخلوق للخالق، آدم لله، وإن السقوط الإنساني الذي هو فقط إبعاد للإنسان، لم يغير من طبيعة هذا الأخير للحد الذي يستوجب الفداء من أجل استعادة الإنسان لطبيعته الأصلية. لذلك ليس هناك في الإسلام مكان للخلاص أو لأسطورة السقوط أو الفداء التي ترمز إلى صورة التاريخ الإنساني وإلى مصير الروح الفردية معا.
إن غياب التوتر الجدلي- كما يرى (غرونباوم)- سواء على مستوى الألوهية أو على مستوى الوضع الإنساني، يحرم الجماعة الإسلامية من ابتكار فن درامي. وإن البيداغوجية الدينية للإسلام تلقن الامتثال المطلق لله، أما وسيلتها الأدبية فهي القَسَم. وقد وجدت الدراما المسيحية دعامتها الأساسية في مسرحيات (الأسرار) التي فقدتها في الأيديولوجيا الإسلامية وفي طقوسها. وقد كافح المتصوفة واستشهد كثيرون منهم دفاعا عن مكانة الإنسان في الكون، وإمكان اتصاله الحميمي بالألوهية، محاولين ردم الهوة بين الخالق والمخلوق بواسطة الحلول الذي يضعف من شأن الحدود الإنسانية، ويخفف من ثقل الزمن التاريخي. غير أن السواد الأعظم من المسلمين وأغلبية الفقهاء معهم ظلوا يعتبرون الإنسان مجردا من أية قوة حقيقية للقرار، وإنما هو مصيَّر لا مخيَّر، وحريته مشروطة أبدا بقوة الجبر، وهذا النوع من المخلوقات لا يمكن أن يصير شخصيات درامية (dramtis personae)[8].
ولا يعود فشل الإسلام- في نظر غرونباوم- في خلق فن درامي إلى أسباب تاريخية، بقدر ما يرجع إلى مفهوم الإنسان ذاته في الإسلام، فهو مفهوم يمنع قيام الصراع الدرامي. وهكذا يعتمد المستشرق مفهوم الإسقاط كمبدإ استبعاد لكل ما لا ينسجم مع الاختيار الثقافي الأصيل المفترض للإسلام. "فكل ظاهرة اختارها الإسلام إلا وتشير إلى ظاهرة رفضها". إن مبدأ الاستبعاد يوجه وينظم كل مظاهر الحياة في الإسلام باعتباره نظاما مغلقا يسير في اتجاه واحد وحسب ترتيب واحد، وطبقا لقانون واحد. ومن ثم فكل النشاطات وفي كل المجالات يعكس بعضها البعض، ويمكن اعتبارها مظاهر متطابقة لمعنى واحد، وكل ما لا ينسجم مع الإسلام السني، ولا يساير مقصده الخاص، يتم إسقاطه وإقصاؤه. ومقصد الإسلام يتجسد كلاميا في التعبير الأدبـي، وزمنيا في السياسة، ومكانيا في تخطيط المدن، وأزليا في العقيدة. لذلك نجد الإسلام السني يرفض أي استقلال حتى ولو نسبـي للقضاء الخاص، ويجهل في مجال التعبير الأدبـي التراجيديا (والتعبير الدرامي عموما)، رغم معرفته بالثقافة اليونانية، نظرا لمفهوم الإنسان في الإسلام الذي يجعل مقولة الصراع التراجيدي مستحيلة. ثم إنه يرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة، بل ويربط آماله الطوباوية بنظام الدولة[9].
ويرى (لويس غارديه)[10]أن الإنسية الإسلامية لا تتقبل التعبير الملحمي وتميل إلى الشعر الغنائي الغزلي، وهي أكثر من ذلك تجهل التراجيديا والفن الدرامي، ويعود ذلك إلى صعوبة تنظيم العروض المسرحية في مجتمع يحارب فيه رجال الأخلاق التقليديون تمثيل الأدوار النسوية. ولكنه يعود أكثر من ذلك إلى أن المعنى الأليم للقدر الإنساني وصراع العواطف النفسي الذي يشكل جوهر التراجيديا والدراما، وتحليل الطباع الذي هو قاعدة الكوميديا الإنسانية الكبيرة، لم تكن قط من خصائص المجتمع الإسلامي في الماضي. إن صراع الإنسان مع قدره، والذي خلدته التراجيديا الإغريقية، لا يتلاءم مع معنى الحياة ولا مع علاقات الإنسان بالله المعهودة في المجتمعات العربية والإيرانية والأندلسية. وكذلك نفس الشيء بالنسبة للدراما أو لمسرحيات الأسرار المسيحية. ويجب انتظار العصر الحديث والتأثير المباشر للغرب، لتنتشر في مصر وفي إفريقيا الترجمات ثم الابتكارات الدرامية[11].
يقدم غارديه، إذن، تفسيرا اجتماعيا ودينيا لغياب المسرح عند العرب والمسلمين، يتسم بالتجزيء والاختزال، ولأن المسرح ظاهرة اجتماعية كلية، فإن تفسير حضوره أو غيابه في ثقافة معينة، يجب أن يكون تفسيرا تاريخيا شموليا. ولا يكفي إرجاع ذلك إلى أسباب جزئية كوضع المرأة الاجتماعي مثلا، فتشخيص الأدوار النسوية لا يفوق جرأة وتمردا ظاهرة القيان والبغاء المؤسس وغيرها من أشكال التحرر الجنسي التي انتشرت في المجتمع العربـي القبلي القديم.