كتاب " سرديات ثقافية " ، تأليف محمد بو عزة ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة ا
أنت هنا
قراءة كتاب سرديات ثقافية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقدمة
لعقود من الزمن ظلت السرديات في مقاربتها للسرد منحصرة في أفقها البنيوي. وإذا كانت قد استطاعت أن ترسي مقاربة علمية دقيقة للسرد خلال المرحلة البنيوية، فإن مشروعها النسقي لم يخل من مفارقات ابستيمولوجية، كشفت عن محدودية هذا الأفق البنيوي. ذلك أن طموحها إلى بناء نحو للسرد على غرار نحو اللغة، جعلها تسقط في ميتافيزيقا النسق، حيث تحدد موضوعها في بناء نموذج افتراضي كلي للسرد. وهذا ما ترتب عنه اختزال النص المفرد إلى مجرد تجل لهذه البنية الافتراضية العامة، باعتباره إنجازا من إنجازاتها الممكنة، بقطع النظر عن تنوعات متون السرد الثرية واختلافاتها، وتعدد مرجعياتها الأجناسية. وكانت النتيجة تهميش دينامية النص المفرد لفائدة نسقية النموذج، بحيث صار موضوع البحث هو السرد بصفة عامة، وليس هذا النوع السردي أو ذاك، أو النص السردي المفرد، وإنما قواعد النسق بصفة مجردة متعالية على تحققاتها الإمبريقية. هذا المأزق الابستيمولوجي، كان نتاج التأثر بالنموذج اللساني، لكنه انبنى على مفارقة، تمثلت في إهمال طبيعة النص المعقدة، ذلك أنه لا يمكن إسقاط النموذج اللساني على وصف النصوص، لأن بنيتها الداخلية تعتمد على عوامل ليست لسانية بشكل خالص.
ينبثق طموح هذه الدراسة من محاولة تجاوز الأفق البنيوي للسرديات، أو بالأحرى توسيعه لينفتح على الأسلئة المعرفية والمرجعيات الثقافية لطبيعة السرد، وذلك في إطار اهتمامنا بصياغة تصور للسرديات الثقافية، لا يلغي المنجز النظري للسرديات البنيوية، خاصة ما يتعلق بمقولات تحليل النص السردي، ذات الطبيعة الإجرائية، والتي تحتفظ بفاعليتها في تحليل البنيات السردية، ورصد أساليب السرد، ولكن يعيد تكييفها في أفق ثقافي، يتجاوز مستوى الوصف البنيوي، نحو عملية التأويل، وذلك بالبحث في المرجعيات الثقافية المحددة لدينامية السرد وقوته الرمزية في تشفير العالم، واستنطاق سياسات التمثيل السردي.
هذا التعديل الابستيمولوجي، اقتضى منا إعادة تحديد مفهوم السرد، بما يتجاوز التحديد البنيوي، الذي ينغلق في مستوى الوصف اللساني. فكان أن انطلقنا من تصور ثقافي لا يختزل مفهوم السرد في الوظيفة الأدبية كما تبلورت في البويطيقا، بل يستدعي مرجعيات الدراسات ما بعد الكولونيالية، التي ترى في السرد شرطا ضروريا للمعنى والمعرفة، معرفة الذات والعالم. وتتم عملية البنينة process of structuring، التي تتمثل في الصياغة التخييلية للذات والعالم في" تشكيل عالم متخيل، تحاك ضمنه استراتيجيات التمثيل". بهذا المعنى الثقافي المعرفي يستمد السرد قوته التمثيلية من تنازع الاستراتيجيات في تجاذبات التخييل والقوة.
إن الهوية الذاتية تتشكل في مجازات السرد كما تؤكد هيرمينوطيقا بول ريكور، وتكتسب الأمم هوياتها الجماعية عبر قوة السرد، "فالأمم مرويات وسرديات"، كما يوضح النقد الثقافي. ولقد تشكلت في مرحلة الكولونيالية خلال النصف الأول من القرن العشرين هوية أكثر من "ثلاثة أرباع شعوب العالم" في إفريقيا وآسيا وكندا وأمريكا اللاتينية وأستراليا وجزر الكاريبـي، بفضل "سرديات التحرر الوطني".
في هذه التجارب والسياقات يمثل السرد إستراتيجية خطابية أساسية بالنسبة للذات في التمثيل، وصياغة هويتها عن طريق تأكيد اختلافاتها مع صور الآخر. اختلاف يأخذ أنماطا متعددة من العلاقات، شكل ديالكتيك السيد والعبد، وهندسة المركز والهامش في الحكاية الكولونيالية، وشكل السلطة والتابع في حكاية السلطة، وشكل الألفة (الأنا/المحلي) والغرابة (الآخر/الأجنبـي) في الحكاية الحضارية.