كتاب " سرديات ثقافية " ، تأليف محمد بو عزة ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة ا
أنت هنا
قراءة كتاب سرديات ثقافية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مفارقات منطقية
هذا التمييز يعتبر مقدمة أساسية بالمعنى المنطقي في البناء الابستيمولوجي للسرديات، تنبني عليها كل إستراتيجية التحليل والوصف. لكن، كما يوضح جوناثان كالر في قراءة تفكيكية للسرديات، تقوم ثنائية القصة/الخطاب على مصادرات ضمنية، مسكوت عنها، تخترق البناء التصوري للسرديات في صورة مفارقات ابستيمولوجية، تكشف محدوديته والتباساته المنطقية، وهي[6]:
- إن التمييز بين الخطاب والقصة، يشتمل على مفارقة، ذلك أنه يفترض وجود أشكال متعددة من التمثيل للقصة، بمعنى أن القصة الواحدة يمكن أن تسرد بطرائق خطابية متعددة، وذلك على افتراض ثبات القصة. وبالتالي فالعلاقة هنا تراتبية، بما يجعل القصة ذات جوهر ثابت، غير متغير invariant، في مقابل تغير أشكال التمثيل الخطابـي variant.
- إن تحديد الخطاب كتمثيل للقصة، يفترض ضمنيا أن القصة تشتغل كمعطى غير خطابـي nonduscursive وغير نصي nontextuel. معطى يوجد بشكل قبلي وسابق prior ومستقل independently عن الخطاب الذي يشخصها. هذا لا يعني أن الروائي يلتقط الأحداث في مرحلة أولى ثم يضعها في الخطاب السردي في مرحلة ثانية. وكأن الأمر يحيل على استعارة الوعاء. ولكن يعني أن التحليل السردي يفرض مقاربة الخطاب كتمثيل للأحداث، بمعزل عن القصة. وهذا العزل يقود إلى مقاربة القصة باستقلال عن التمثيل الخطابـي، وبوصفها تحيل على أحداث ذات طبيعة واقعية real.
هكذا، فإن التمييز بين القصة والخطاب، وما يضمره من تراتبية متحيزة لاستطيقا الخطاب، يفترض التسليم مسبقا بوجود نظام زمني واقعي للأحداث، يقوم الخطاب في خطوة تالية بخرقه والانـزياح عنه في لحظة تمثيله. ومن هنا، تنشأ المفارقة الابستيمولوجية في أن المحلل السردي ينبغي أن يفترض أن الأحداث الممثلة لها نظام حقيقي true، من أجل أن يستطيع وصف الخطاب كتعديل أو محو لنظام الأحداث.
بافتراض أسبقية priority القصة على الخطاب الذي يقوم بتمثيلها وتشخيصها، تؤسس السرديات تراتبية hierarchy، بموجبها يتحدد الخطاب كإستراتيجية خطابية دينامية، تحدد جمالية القصة، التي ينظر إليها كشيء معطى تابع، يكتسب صورته التمثيلية من اشتغال الخطاب، أي كنتاج للفعل الخطابـي.
سيقود هذا المنطق التراتبـي في بعض التطبيقات العربية إلى تكريس معيار تفاضلي يتحيز للخطاب، ويجرد القصة من أية جمالية. هذا ما يعيد إنتاجه سعيد يقطين أحد أبرز المتخصصين بالسرديات، حين يصر على الفصل بين الخطاب والقصة، ويعتبر ذلك مرتبطا بالاختيارات المنهجية للباحث، باعتبار أن كل باحث يختار زاوية معالجته للموضوع بحسب رؤيته التي تمليها عليه مرجعيته، يقول "لقد كان هدفي دائما هو الاشتغال ب"الخطاب"، ومختلف أبعاده النصية، لأني أعتبره الموئل الأساس ل"السردية"، بصفتها الخاصية التي تتميز بها الأعمال السردية عن بعضها البعض، وكان هذا الخيار ينبع من طريقتي الخاصة في تناول السرد من خلال نصوص تجريبية، لأن ما يشغلني فيها هو المستوى "التعبيري". أما جانب المحتوى فلم يكن يحظى في هذا النوع من النصوص بالقيمة التي نجدها في غيرها. إن النصوص التجريبية هي بأحد المعاني ضد القصة أو المادة الحكائية. وإذا ما اشتغلت بالمادة، فإن ما يحكم هذا الاشتغال سيكون بالضرورة محددا بالخلفية نفسها، ومؤسسا على القاعدة ذاتها: سرديات الخطاب[7]"
نلاحظ أن الباحث بفصله بين الخطاب والقصة، يسقط في ثنائية اللفظ والمعنى في البلاغة القديمة، لأنه يربط الخطاب بمستوى التعبير، أي المستوى الجمالي، في حين يربط القصة بمستوى المعنى (" لقد تبين لي أن الذين اهتموا بمادة الحكي، كان يشدهم إليها على وجه خاص "المعنى" أو "الدلالة"[8]).
ويسقط سعيد يقطين في اختزال القيمة الجمالية، حين يرى أن النصوص التجريبية تبني قيمتها على المستوى الخطابـي، وليس على مستوى الحكائي. في حين نرى أن الهدم الذي تقترفه النصوص التجريبية على إطار القصة هو جزء من إستراتجيتها وفلسفتها. وفي ممارسة فعل الهدم لا ينفصل الخطاب عن الحكاية. ذلك أن السرد التجريبـي يقدم شكلا نقيضا في الصوغ الحكائي هو الحكاية المضادة. وبالتالي فعملية الهدم هنا متمفصلة على صعيدي الخطاب والحكاية ضمن علاقة تفاعلية، وليس تجاورية، بحيث تكون القيمة الجمالية نتاج هذا التفاعل، ولا تقتصر على مستوى دون آخر، أي ليست قيمة حصرية على مستوى الخطاب دون مستوى القصة، أو مستوى التعبير دون مستوى المحتوى. وهذا ما يؤكده الباحث صبري حافظ، حين يكشف أن الفصل بين القصة والخطاب عند سعيد يقطين، ينهض على مصادرة فكرية تراثية، تعود إلى مقولة الجاحظ الشهيرة بأن المعاني مطروحة في الطريق، لكن ما يميز الكاتب هو أسلوب معالجته لهذه المعاني. "لذلك فإن هذه المقولة تنهض فلسفيا على مركزية الذات المفكرة والذات الكاتبة عند أعظم تأثر عربـي قديم. ولا تفصل المعنى عن أشكال تلقيه فحسب، ولكنها تقدم هذه الأشكال عليه، وتعتبرها السبيل العقلي إليه. لأن الشواهد عند المعتزلة هي الدليل العقلي الصلب على المعاني، وليس العكس. ولذلك فإن أي استشهاد بمقولة الجاحظ لا يدرك ظهارها الفلسفي يقع في مجموعة من المزالق التي تسيء فهم المقولة ذاتها، وتعتبرها مقولة تفصل الشكل عن المعنى، كما أن ظاهر هذه المقولة، الذي يقصده الاستشهاد يغفل، عادة، بحثا مهما من مباحث النقد الأدبـي الحديث، وهو مبحث محتوى الشكل. فالشكل ليس شكلا عاريا عن المعنى والدلالة، تصب فيه المعاني والمضامين، كما شاع لأمد طويل، ولكنه معنى ومحتوى له دلالاته الفلسفية والفكرية والأدبية، وهي أهم بكثير مما اعتدنا دعوته بالمعنى أو المضمون.[9]"


