كتاب " سرديات ثقافية " ، تأليف محمد بو عزة ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة ا
أنت هنا
قراءة كتاب سرديات ثقافية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وعلى خلاف السياق المعرفي الفرنسي، الذي تميزت فيه السرديات بنـزوعها التنظيري المفرط، سيكون النقد الأنجلوساكسوني في بريطانيا وأمريكا أقل ميلا إلى التنظير، لأنه لم يهتم بشكلنة مقولاته على غرار السرديات البنيوية، أو ببناء نحو للسرد، حيث اهتم بالدرجة الأولى بمسألة وجهة النظر point of vieux. وكانت محاولة وايث في كتابه بلاغة الرواية رائدة في هذا المجال، ذلك أنها مثلت نموذجا لما يمكن تسميته المقاربة الإمبيريقية[10]empiricism الأنجلو أمريكية، التي قامت على فحص شامل لمتن واسع من النصوص التخييلية. وانطلاقا من هذا الفحص النقدي لأعمال روائية مفردة سيوضح وايث سلسلة من الأنواع المختلفة للسرد، بالتركيز على مفهوم "وجهة النظر".
في مقابل المنهج الاستنباطي في السرديات البنيوية الفرنسية، سيعتمد وايث المنهج الاستقرائي، الذي يعنى أساسا بدراسة وفحص الأعمال السردية المفردة، وليس افتراض نموذج مجرد، لا تمثل النصوص سوى إنجازا من انجازاته الممكنة.
وعلى النقيض من مفهوم الرؤية السردية وما يتسم به من طبيعة تقنية شكلانية في السرديات البنيوية، لا يقتصر الأمر في مفهوم "وجهة النظر" الأنجلو أمريكي على معرفة من يروي؟ أي وضع السارد، ومن أي جهة يروي؟ أي طبيعة معرفته، بل يتجاوز هذه الوظيفة البنيوية، نحو معرفة تعالقات المنظور وديناميات القوة المرتبطة بوجهة النظر. ذلك أن مفهوم وجهة النظر يتضمن تعالقا جدليا بين من "يروي" narrates و"يرى" seing. بين الراوي والمنظور الذي يرى منه الأحداث. وهذا لا يقتضي فقط التعرف على من يضطلع بالسرد وتحديد طبيعة معرفة السارد، بل يقتضي -إضافة إلى ذلك- التعرف على وجهة نظره حول ما يرويه. وهذا ما يحدد منظورية السرد، أي وظيفته الدلالية والفكرية.
وإذا كان تحديد موقع السارد ونمط رؤيته السردية ضروريا، فإن أهمية الترابطات بين موقع السارد ونمط رؤيته وبين وجهة نظره تظهر أكثر في فهم الامتياز الذي يمنح للشخصيات، والتراتبيات المحتملة للمعرفة وأشكال القوة المعبر عنها من خلال المواقع السردية.[11]"
وهنا يمكن أن نستحضر مفهوم باختين عن الخطاب الروائي[12]، وبالتحديد ما يسميه بالرواية البوليفونية، أي الرواية المتعددة الأصوات، التي تشخص تعدد المواقع وتعدد وجهات النظر، بحيث يكون الخطاب تعدديا وحواريا، لا يسعى إلى فرض وجهة نظر واحدة وموحدة على العالم الروائي.
نحو سرديات ثقافية
تكمن دينامية الإبدالات المعرفية للمشروع البنيوي في مجال الدرس الأدبـي، في تأسيس علم جديد للأدب، أحدث قطيعة مع النماذج التفسيرية، وأفضى إلى إنتاج معرفة نسقية دقيقة بالخطاب السردي على درجة عالية من الوصف الموضوعي. غير أن أهمية هذه التحولات التي حققتها السرديات خاصة في السياق المعرفي الفرنسي، لا ينبغي أن تحجب محدودية هذا النموذج، سواء بالنظر إلى مفارقاته الابستيمولوجية، أي ما يتخلل نسقه من مصادرات ملتبسة، أو بالنظر إلى تعقد مفهوم السرد وتشعب مرجعياته اللسانية والتعبيرية والثقافية، وأيضا بالنظر إلى ما ستعرفه النظرية الأدبية والثقافية من تحولات جذرية في سياق تطورها واستجابتها للتحولات التاريخية والاجتماعية.
هذه الإشكاليات المعرفية المرتبطة بوهم النموذج العلمي، هي في الحقيقة جزء مما عرفته الشعرية تاريخيا من التباسات منطقية ومفارقات ابستيمولوجية، خاصة في نـزعتها العلموية الوضعية، وهو ما كان تودوروف نفسه تنبه إليه، وجعله يعيد النظر في النـزعة الشكلانية للمنهج البنيوي في سياق مراجعة جذرية وشاملة للمشروع البنيوي، بدأت ملامحه الأولى في كتابه "نقد النقد[13]"، حيث اقترح ما أسماه "بالنقد الحواري" نموذجا بديلا للشعرية، وأيضا ما كتبه في المقدمة الانجليزية لكتابه "الشعرية"، حيث قام بمراجعة شاملة لوضعية الدراسات الأدبية خلال الثمانينات، مسجلا التغيرات التي بدأت تطرأ على نظرية الأدب، "إنها تعود بالأساس إلى أن الخصوصية الأدبية ليست من طبيعة لغوية (وبالتالي كونية) وإنما من طبيعة تاريخية وثقافية.[14]"
وفي سياق إعادة قراءة وتفكيك الأسس المركزية للبنيوية، ستظهر نماذج جديدة، تختلف عن الشعرية، مجاوزة لأفقها البنيوي، بحيث أنها لم تعد تقف عند حدود الأدبية، وتكتفي بوصف البنيات اللفظية.
وهو الأمر الذي استلزم مراجعة وإعادة النظر في الخلفيات المعرفية المؤسسة للنظرية السردية. ففي مقابل اتساع طبيعة السرد التعبيرية والثقافية والرمزية، اختزلت السرديات طبيعة السرد في بنيته الشكلانية. ومن جهة أخرى، وبسبب ارتهانها إلى النموذج البنيوي، انتهت السرديات إلى تقليص دينامية النص في المستوى اللغوي، بحيث ستختزل هوية السرد إلى مجرد وحدة لسانية صغرى هي الجملة النحوية، تخضع للوصف اللساني، وبذلك ستضحي بمرجعيات السرد الدلالية والرمزية، التي تستدعي ربط السرد بنماذج أخرى أكثر شمولية، تداولية وثقافية وتأويلية.
هذه الممارسة الاختزالية المحايثة لواقع السرديات، ستدفع بالنظرية الثقافية إلى البحث عن آفاق جديدة تتجاوز المستوى اللساني البنيوي لمفهوم السرد. فما يميز السرد ليس هو كونه صيغة للتلفظ، ولكن بالأساس، طبيعته عبر اللسانية. إنه يمثل خطاب الذات إلى العالم، يقوم بوظيفة الوساطة الرمزية، بمعنى أنه كفعل رمزي يتوسط التجربة الزمانية الإنسانية" فالعالم الذي يفترعه أي عمل سردي هو دائما عالم زماني... إن الزمن يصير زمنا إنسانيا ما دام ينتظم وفقا لانتظام نمط السرد، وأن السرد بدوره، يكون ذا معنى ما دام يصور ملامح التجربة الزمانية[15]".
وكما كشفت الأبحاث المعرفية[16]، لا يمثل السرد مجرد خاصية نصية مكونة للخطاب الأدبـي، بل يمثل الشرط الضروري والحتمي للغة والمعنى والمعرفة، معرفة الذات والعالم. في هذا السياق يتحدث الناقد فريديريك جيمسون عن العمليات المشكلة للسردية، "ويعتبرها الوظيفة المركزية للذهن الإنساني[17]." هذه الطبيعة الكلية للسرد تستدعي تقديم تصور معرفي يدرج السرد ضمن أنساق الثقافة والمتخيل والتاريخ، ويكشف ترابطاته الجدلية ببنيات القوة والرغبة.
باستحضار المرجعية الثقافية، نرى أن السرد أكثر من مجرد مظهر لفظي للخطاب. إنه "تشكيل عالم متخيل، تحاك ضمنه استراتجيات التمثيل، وصور الذات عن ماضيها وكينونتها وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات ونـزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه.. كما يصوغها بقوة وفعالية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وأنهاج تأويله له[18]".


