كتاب " سرديات ثقافية " ، تأليف محمد بو عزة ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من مقدمة ا
أنت هنا
قراءة كتاب سرديات ثقافية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في سياق هذه العلاقات الدياليكتيكية تتحدد وظيفة السرد وفق علاقات القوة بين الأطراف، حيث تدخل إستراتيجية كل طرف في مواجهة خطابية مع إستراتيجية الآخر، إما من أجل فرض سرديتها، أو منع سردية أخرى من الظهور. وفي هذا السياق الخطابـي المحتدم بجدليات السلطة والرغبة، تتشكل وظيفة السرد كإستراتيجية مضادة لتقويض الافتراضات المتحيزة التي تنشأ عن عملية تمثيل الآخر. وبفعل هذه المواجهة الخطابية، يتورط السرد في سياق مرجعيات ثقافية مرتبطة بجوانب من ديناميات الهوية والاختلاف والسلطة والإيديولوجيا.
في محاولتنا مقاربة السرد في ضوء هذه المرجعيات الثقافية، اقترحنا نموذج السرديات الثقافية. ولوصف معالم هذا النموذج وتفسير ممارسته المعرفية، قسمنا هذه الدراسة إلى مدخل وأربعة مباحث.
في المدخل سعينا إلى بسط تصورنا للسرديات الثقافية. وقد تأسس هذا التصور على أساس مراجعة ابستمولوجية لمسار السرديات البنيوية من جهة أولى، وعلى فهم للسياقات الجديدة، المعرفية والتاريخية للنظرية ما بعد الكولونيالية من جهة ثانية، وعلى تحديد الممارسة البديلة التي تقترحها في القراءة والتأويل من جهة ثالثة.
في المباحث الأربعة الأخرى قدمنا قراءات تطبيقية لنصوص روائية عربية، تركز على تحليل أنماط السرديات البديلة التي تطرحها هذه النصوص في استراتيجياتها الخطابية والسردية.
في مبحث السرد والسلطة نستقصي العمليات الخطابية المقترنة بالقوة على ممارسة السرد، خاصة في الوضع الذي تفرض فيه السلطة حالة الإسكات على المجتمع (الاعتقال، القمع، التحكم في وسائل الاتصال والإعلام..). في مواجهة هذا الوضع يمثل السرد القوة الدافعة للكتابة، وكسر حالة الصمت. وتضم هذه العمليات امتلاك "الصوت" وشفرة التمثيل.
في رواية "دمية النار" لبشير مفتي، تحضر السلطة في صورة المتاهة الميتافيزيقية التي تبسط هيمنتها على المجتمع، وكأنها قدر حتمي. ويقوم السرد بتشريح جسد السلطة بإستراتيجية "طباقية"، وليس أحادية، حيث يتواجه صوت السلطة بأصوات ضحاياها. في مقابل سردية السلطة التي تفرض تاريخا أحاديا للحدث، بوصفه التاريخ الحقيقي، تاريخ الأمة المقدس، ينتج السرد الروائي، باعتماد أسلوب "إعادة الكتابة" سردا انتهاكيا، ينبثق على هامش حكاية السلطة، ويزرع الشك والارتياب في خطاب السلطة، متوسلا في ذلك العمليات التدميرية للمحاكاة الساخرة.
في انبثاق الأصوات المقموعة من هامش نسيانها، في صورة محكيات صغرى، تنتهك سلطة السرد المركزي، وتخط مسارات مناقضة للمسار الغائي الحتمي لمحكي السلطة، شذرية ومتشظية، بما يغير شروط الخطاب الذي تفرضه السلطة على استعادة الماضي.
وفي رواية "الساحة الشرفية" لعبد القادر الشاوي، تمثل الحكاية الملاذ الأخير الذي يجعل السجن فضاء قابلا للاحتمال، حيث يعاش زمن الحرية تخيليا في أطياف السرد الاستعادي. وباعتماد تقنية الحكاية داخل الحكاية (محكيات المعتقلين السياسيين)، وهجنة الأجناس المتخللة (الرسائل، اليوميات) ينبثق سرد مضاد لحكاية السلطة، يأخذ موقعه داخل بنية النص الخطابية من مواجهته لخطاب السلطة، في شكل خطاب- نقيض يقوم على الحفر السردي في الماضي المسكوت عنه (ماضي السلطة في الانتهاكات). ويتم تعرية خطاب السلطة باستدعاء حكايات الضحايا في الحاضر مسرودة بأصوات رواتها، التي تعيد حكي الماضي برؤى واستراتيجيات مختلفة، تدخل في نـزاع مع سرد السلطة.
وفي رواية "كهوف هايدراهوداهوس" لسليم بركات توظف إستراتيجية الخطاب- النقيض بطريقة أليغورية (مجازية)، عبر استحضار حكاية خرافية في الميتولوجيا الإغريقية، تتحدث عن كائنات "السنتور"، وهو كائن خرافي، نصفه العلوي إنسان، ونصفه السفلي حصان. وبأسلوب التمثيل الكنائي تقوم الرواية بترميز الصراع على السلطة بين الأمير الذي يقتل في أحد جولاته المتنكرة، من طرف معارضيه. وللحفاظ على السلطة يستخدم النظام أسلوب "التنكر"، حيث يتم إخفاء حادثة مقتل الأمير، بإنتاج "شبيه" له هو شخصية الشاعر "زينون". غير أن الشبيه لا يمكن أن يكون صورة للأصل، حيث تتدخل عملية المحاكاة الساخرة في تشويه الأصل، وبالتالي تدميره. يتم تقويض قانون السلطة في الانـزياحات الهزلية التي تصاحب عمليات الشبيه والتنكر والازدواج، لأن الشبيه، وهو يوضع في مكان الأمير، لا يحل محل الأصل (الأمير)، بل يحاكيه، وبالتالي ينتج صورا هزلية للأصل، تفكك صلابة السلطة ومهابتها في الانـزياح الهزلي للصور والوضعيات الساخرة للشبيه.


