كتاب " احفظ أولادك من خطر الرقميات " ، تأليف د.ديفيد داتوين ، ترجمة مها عز الدين ، والذي صدر عن دار الر
أنت هنا
قراءة كتاب احفظ أولادك من خطر الرقميات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
منهـج البحـث
كيف يتوصل العلماء إلى الكيفية التي تقوم من خلالها وسائل الإعلام بالتأثير علينا؟ هناك بصورة نمطية ثلاث طرائق يبحث عبرها العلماء في آثار وسائل الإعلام. بادئ ذي بدء، ينظر الباحثون في مضمون ما يبثه الإعلام. فمن السهولة بمكان على الناقدين أن يسموا الإعلام بمجمله على أنه عنيف إلى أقصى درجة، وتغمره المضامين الجنسية، ولكن العلماء لا يؤدون المهام بهذه الطريقة. فهم بحاجة لأن يعرفوا على وجه اليقين، لذا فإن ما يفعلونه هو جمع الكثير من إحدى وسائل الإعلام. فمثلاً يجمعون المجلات العشر الأكثر شهرة ومبيعاً بكل أعدادها التي صدرت خلال السنوات العشر الأخيرة، ومن ثمّ يقيسون صفحة بصفحة إلى أيّ مدى تحوي المضامين العنيفة والجنسية مقابل المضامين المغايرة لذلك.
ما إن يحيط الباحثون علماً بما تحتويه وسائل الإعلام حقاً حتى يشرعوا بدراسة آثارها الممكنة. إحدى الوسائل الأخرى للقيام بذلك هي عن طريق إجراء مسح على الناس. باختصار، يقومون بطرح أسئلة على الناس تتعلق بأنماط استهلاكهم لوسائل الإعلام، وكذلك مدى أرجحية احتمال أن يكونوا عدوانيين أو أن يعتقدوا بأفكار جنسية نمطية شائعة. أو في حال الأطفال تتطرق الأسئلة إلى احتمال وجود مشاكل في الانتباه لديهم، أو اضطرابات في النوم. فإن كان استخدام النوع المناسب من الإعلام مرتفعاً لدى بعض الأشخاص دوناً عن غيرهم ( كأن يكون الشخص ـ مثلاً ـ ليس فقط غير متابع لكثير من المواد الإعلامية ، بل وتحديداً لتلك التي تحوي الكثير من العنف )، ووجد لدى هؤلاء الأشخاص ذاتهم ميول عدوانية أكبر من غيرهم، عندها يقول الباحثون إنَّ هناك علاقة تبادلية أو ارتباطاً ما بين مشاهدة برامج التلفاز العنيفة وامتلاك المرء للمواقف العدوانية. ومع ذلك، فإن مشكلة العلاقات المتبادلة أنها لا تثبت أن أمراً ما هو الذي يُسبِّب الآخر.
فبالفعل، هناك احتمال قوي في أن يكون الأشخاص ذوو الميول العدوانية يسعون إلى متابعة البرامج العنيفة على التلفاز. إنما لحسن الحظ يستطيع الباحثون أن يستخدموا نماذج رياضية دقيقة ليستبعدوا إحصائياً العوامل الأخرى. فمثلاً، يعد وجود الأهل العدوانيين عاملاً جوهرياً يفضي إلى وجود أبناء عدوانيين أيضاً. فإنه بوضع هذا العامل في سياق التحليل، يمكن أن يختفي التأثير المفترض للبرامج التلفازية العنيفة. ومع هذا يكون من الصعب أحياناً على الباحثين قياس التفسيرات المحتملة الأخرى كلها. وعليه فإن الأبحاث المبنية على العلاقات التبادلية يجب أن يتم الحكم عليها على الدوام استناداً إلى مدى الشمولية التي يتناول الباحثون بها الأشياء، ومدى سيطرة التفسيرات المحتملة الأخرى.
وأخيراً يقود الباحثون التجارب. تمتلك هذه التجارب ميزة القدرة على إظهار السببية. فعلى سبيل المثال، يمكن للباحثين أن يأخذوا مجموعة من الأشخاص، ومن ثم يقومون بتوزيعهم عشوائياً على مجموعتين، الأولى ممن يتابعون البرامج غير العنيفة، والثانية من متابعي البرامج التلفزيونية العنيفة. تتجلى الميزة هنا في أنه نظراً إلى أن توزيع العينة كان عشوائياً ضمن المجموعتين فإن أي ميول عدوانية مسبقة توزع بالتساوي على المجموعتين، وبالتالي لا يمكن أن تكون عاملاً يؤخذ بالاعتبار في سياق البحث. وبعد أن تتابع كل من المجموعتين نمطاً محدداً من البرامج (يحوي عنفاً أو لا)، يَطْلُبُ إليهم مُجرو التجارب أن يملؤوا استبياناً. مثلاً يمكنهم أن يسألوا المشاركين إلى أي حد يعتقدون أن الصراخ يفيد في حل مشكلاتهم أحياناً، على أن تكون إجاباتهم وفقاً لمقياس مدرَّج من واحد إلى عشرة. فإن أعطى الأشخاص الذين شاهدوا برامج تحوي عنفاً أثناء التجربة نقاطاً أعلى من أولئك الذين شاهدوا برامج لا تحوي عنفاً، تكون التجربة قد أظهرت أن التلفاز لا يرتبط فقط بعلاقة تبادلية مع الميول العدوانية، بل يمكنه في واقع الأمر أن يسبب توجهات عدوانية أيضاً.
ولعل المشكلة الوحيدة الأهم المتعلقة بالتجارب هي أنها غالباً ما تقيس السلوك في محيط تجريبي أو اصطناعي. فهل يتفاعل الناس بالطريقة ذاتها لو أنهم شاهدوا العنف على التلفاز في منازلهم؟ وثانياً، إن القائمين على التجارب يقيسون عادة ما إذا كانت المجموعتان تتصرفان بشكل مختلف، أو تجيبان عن الأسئلة على نحو مختلف في مرحلة ما، تماماً بعد انتهاء أفرادهما من متابعة الإعلام الحاوي عنفاً أو غير الحاوي عنفاً. بمعنى أن هذا يدعهم غير واثقين مما إذا كانت مشاهدة الإعلام الناضح عنفاً ذات أثر طويل الديمومة.
على الرغم من هذه النقائص، فالأبحاث المجراة على تأثير وسائل الإعلام كانت غاية في النجاح ؛ لأن وسائل الإعلام كانت معنا على مدى عقود عديدة، فقد سنحت الفرصة للباحثين ليدرسوا غالبية آثارها الرئيسة المحتملة وبوسائل متعددة ومختلفة. بمعنى آخر، إذا ما وَجَد مسحٌ أو تجربة صلةً بين البرامج التلفازية العنيفة والأفكار العدوانية، فيمكن لأحدهم أن يجد من العيوب في تلك الدراسة المفردة ما يكفي لأن يشكك بها. فالافتقار إلى دراسات أخرى لدعم تلك المعلومات يمكن أن يقلل من الثقة بأن ما تم التوصل إليه حقيقي فعلاً. ولكن عندما يتم إجراء خمس عمليات مسح وخمس تجارب مختلفة، وتجد تسعة من أصل عشرة من مشاريع البحث هذه صلةً بين برامج التلفاز العنيفة والأفكار العدوانية، عندها يمكن للمرء أن يتأكد من أن الباحثين على دراية بما يفعلون. وبالنسبة لكثير من المواضيع التي درسها الباحثون في شؤون الإعلام، فقد أجريت بالفعل دراسات متعددة على المواضيع ذاتها.