كتاب " فلسفات الحياة الثلاث " ، تأليف بيتر كريفت ، والذي صدر عن دار اوفير للطباعة والنشر والتوزيع ، نقرأ نب
أنت هنا
قراءة كتاب فلسفات الحياة الثلاث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
خلودُ أدبِ الحِكمة
أحببتُ الفلسفةَ ومارستُها لسنين طويلة، وأعمقُ ثلاثةِ كُتُب فلسفيَّة قرأتُها على الإطلاق هي أسفار الجامعة وأيُّوب ونشيد الأنشاد. وفي الواقع أنَّ أوَّلَ كتابٍ جعلَني فيلسوفًا، في الخامسةَ عشرةَ من عُمري تقريبًا، كان سِفر الجامعة.
يُمكنُ تصنيفُ كُتُب الفلسفة بطرُق عدَّة: بين قديمٍ وحديث، أو شرقيٍّ وغربيّ، أو تشاؤميٍّ وتفاؤليّ، أو عقلانيٍّ ولاعقلانيّ، أو أحَدِيٍّ وتعدُّديّ، وتصنيفاتٍ أُخرى سِوى ذلك. ولكنَّ أهمَّ تمييز، كما يقول غبريال مارسِل (Gabriel Marcel)، هو ما بين ‘‘الملآن’’ و‘‘الفارغ’’، المتين والضَّحل، العميق والسَّطحيّ. فعندما تكونُ قد قرأتَ جميعَ الكُتُب في جميع مكتبات العالَم؛ وعندما تكون قد رافقْتَ جميعَ حُكَماء العالَم في جميع رحلاتهم إلى أعماق الحِكمة، لن تكونَ قد وجدتَ ثلاثةَ كُتُب أعمق من الجامعة وأيُّوب ونشيد الأنشاد.
إنَّ هذه الأسفارَ الثلاثة ينبوعٌ لا ينضبُ حقًّا. فهي زاخرةٌ بقوَّةِ تجدُّدٍ خفيَّة. وأنا أجِدُ دائمًا غِذاءً جديدًا بقراءتها من جديد، ولا أكِلُّ أبدًا من تعليمها. إنَّها جوهريًّا تُشكِّل خيرَ مِثالٍ على تعريفي للعمل الكلاسيكيّ. فالأعمالُ الكلاسيكيَّة تُشبِه بَقَرةً تُعطيك حليبًا طازجًا كلَّ صباح. والعملُ الكلاسيكيُّ كتابٌ يُكافئُ القِراءة المُكرَّرة على نحوٍ لا ينقطع. بَلِ العملُ الكلاسيكيُّ كالصَّباح، كالطبيعةِ نفسها: دائمُ الشَّباب، دائمُ التَّجدُّد. لا، ليس كالطبيعة أيضًا، لأنَّها- شأنُها شأنُنا- مَحكومٌ عليها بأن تموت. إنَّ الله وحدَه دائمُ الشَّباب أبدًا، والكتاب الذي أوحى الله به وحدَه لا يَشيخ.
متى أرادَ الله أن يُوحِيَ بفلسفةٍ ما، فلِماذا يوحي بأيِّ شيءٍ سِوى الأفضل؟ غير أنَّ الأفضل ليس بالضَّرورة الأكثرَ تعقيدًا. فإنَّ أفلاطون، في الأَيون (Ion)، يقولُ إنَّ الآلِهةَ اختاروا عمدًا أضعفَ الشُّعراء كي يُلهِموهم أعظمَ القصائد، حتَّى يكونَ المجدُ لهم، لا للإنسان. وذلك تمامًا هو ما يقولُه القِدِّيس بولس في رسالة كورنثوس الأُولى. ثُمَّ إنَّنا نرى هذا المبدأ نافذًَا في الكتاب المقدَّس كلِّه: المُفارَقة المُبينة ما بين بَدائيَّة الشَّاعر وعُمق القصيدة، بين ضآلة المُغنِّي وعَظَمة الأُغنية، بين غياب التَّعقيد البَشَريِّ وحضور الحكمة الإلهيَّة. فثمَّة شيءٌ يخترق الكلماتِ دائمًا، شيءٌ لا يُمكِنُك أن تُدرِكَه تمامًا ولكنْ أيضًا لا يمكن أن تفوتَه تمامًا، إنْ أنتَ فقط وقفتَ هُناكَ بنَفسٍ مكشوفة. قِفْ تحتَ المَطَر الإلهيّ، فتَنموَ بُذورُ الحِكمة في نفسك.