You are here

قراءة كتاب أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

كتاب "أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب"، هذا الكتاب محاولات في دراسة بعض الجوانب المهمة في الدرس اللساني، ونعني جانب المعنى وما يحفّ به من تطلعات نظرية وإجراءات عملية محفوفة بكثير من التشويق والاعتياص، في آن.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار زهران
الصفحة رقم: 3
لعلّ من أعسر الحدود هي الحدود المتداولة بحيث تصبح في مرتبة البديهيات، ولكن قد يكون من الملائم منهجيا ألاّ نُهمل حدّ المعنى حتى وإن كان الحدّ المقترَح أوّليّا وغير نهائيّ. المعنى هو "ما تعنيه"، ما تبلّغُه كلمةٌ، ما تُوصله إلى الفكر عبارةٌ أو أيّةُ علامة أخرى تلعبُ دورا مماثلا(3 ). وقديما كان يُقصد بكلمة معنى فكرة المتكلّم أو نيّته؛ أي هو حالة فكرية يريد إبلاغها (تمثُّل، شعور، فعل)( 4).
 
ويستنتج لالاند أنّ "معنى الكلمة أو العبارة هو مضمون نفسيّ مُعقَّدٌ جدّا، هو موقف وحركة فكريّان يتضمّنان خيْلات فرديّة وعينية، واتجاهات تنضاف إليها الإرادة لدى المتكلم، و"الشعور بالفهم" لدى السامع، أي تنضاف إليها القدرة على ذِكْر خيْلات أو علامات أخرى مرتبطة بهذا الشعور بروابط محدَّدة، ومعرفة ما يجب القيام به، إلخ."(5 )
 
 المعنى والعلامة
 
إنّ إدراك بعض الموجودات المادّية (أشياء، علامات، أصوات، ...)، يمكن أن يؤدّي إلى وجود تفكير في شيء آخر مع انتظام مّا. من ذلك رؤية الدخان وفكرة النار، وكذلك آثار الأقدام على الرمل تجعلنا نفكّر في الإنسان الذي مرّ من هناك. فالدخان وآثار الأقدام هي علامات لشيء آخر. إنّها علامات طبيعية. والعلاقة بين العلامة والشيء الذي تدلّ عليه هي علاقة عِلّيّة، وضعتْها الطبيعةُ وصقلتها التجربةُ. ويمكن أن نقارن هذا بعلامات المرور، على سبيل المثال، أو بعض الرموز الأخرى، نحو القلب المطعون بسهم. إنّ الربط بين الرمز والشيء الذي يدلّ عليه، في هذه الأحوال، ليس ربطا طبيعيا؛ لقد وضعته الطبيعة البشرية أو الاصطلاح ويُتعلّم من هذين المصدرين. هذه العلامات غير الطبيعية، أو الرموز، مستعمَلة بشكل واسع في التواصل البشريّ(6 ).   
 
في هذا السياق، تبرز عناصر اللغة بوصفها علامات غير طبيعية. وتكمن المنفعة من الكلمات والجمل في مظهرها المادّيّ وإدراكها يُرجَّحُ أنّه يوجِّه الانتباه أو الفكر نحو شيء آخر. والكلمات، في الواقع، هي الواسطة الأساسية للتواصل البشريّ، ومثلما يبيّن ذلك تعدّدُ الألسن واختلافُها، فإنّه لا يمكن أن تكون العلاقةُ بين الكلمات ودلالاتها علاقةً طبيعيةً. الكلماتُ والجملُ مثلُ الرموزِ. إنّها تحدّدُ شيئا خارجًا عنها؛ إنّها تدلُّ على شيء مّا. الدخان يدلُّ على النار والقلبُ المطعونُ بسهمٍ يدلُّ على الحُبّ. الكلماتُ تعني الشيء الذي يجعلنا نفكّر فيه، ومعنى الكلمة هو الرابط الذي يصل بينها وبين الشيء) (7).  
 
ثمّة كلمات تبدو هذه المقاربة صالحةً لها بشكل صريح، ألا وهي أسماء الأعلام. فكلمة باريس تعني (تدلّ على، تحيل على، تشير إلى، ...) مدينة باريس، واسم أرسطو يدلّ على ذلك الفيلسوف المعروف، وهكذا دواليك. وإنّ معقولية هذه الأمثلة تولّد اعتراضا في أذهان كثير من المفكّرين، ابتداء من أفلاطون. بالعودة إلى أسماء الأعلام بوصفها كلمات بامتياز، يحاول المفكّرون توسيع المنوال المرجعيّ للمعنى إلى سائر أقسام الكلام والجُمل. ويُمكن اعتبار نظرية "الصُّوَر" الأفلاطونية محاولةً لإيجادِ مرجعٍ لأيّ اسم مثل "كلب" أو للأسماء المجرّدة مثل "شهادة" أو "عدل". لمّا كانت كلمة سقراط في جملة "سقراط حكيم" تحيل على سقراط، على سبيل المثال، فإنّ كلمة حكيم تحيل على صورة الحِكمة. لسوء الحظّ، ومع أنّ سقراط إنسان حقيقيّ عاش في هذا العالم، فإنّ صورة الحكمة ليست أمرا يمكن أن نُحيط به في أيّ مكان أو أيّ زمان، في العالم. وتتفاقم الصعوبة التي تطرحها هذه الكائنات "الأفلاطونية" من هذا الصنف، متى حاولنا إيجادَ مراجعَ ملائمةٍ للأفعال والحروف وأدوات الربط وغيرها. وتكثر في الأدبيات الفلسفية مناقشة الكائنات المجرّدة مثل الأصناف (نحو صنف جميع الأشياء الجارية) والعلاقات (مثل علاقة ما يكون أكبر من ...). بل إنّ غوتلوب فريجه (Gottlob Frege) يصادر على أنّ "الصحيح" و"الباطل" مرجعان للقضايا الكاملة) (8).
 
ثمّة مشاكل كثيرة مهمّة تعترض سبيل نظرية المعنى المرجعية. المشكلة الأولى عبّر عنها فريجه، وتتمثل في أن يكون ثمّة مرجعٌ واحدٌ لعبارتيْن، دون أن يكون المعنى واحدا. من ذلك أنّ عبارتَيْ "نجمة الصباح" و"نجمة المساء" تدلاّن على الكوكب نفسه، لكنّهما لا تدلاّن على المعنى نفسه، كما هو واضح. والواقع أنّ مسألة هُويّة نجمة الصباح ونجمة المساء، هي مسألة علمية وليست قضية لسانية. لذلك حتى في حالة الأسماء أو العبارات المعادلة للأسماء، علينا أن نميّز بين دلالة الاسم الصريحة (الإحالة، الماصدق) وبين الشيء (أو مجموعة الأشياء) الذي يحيل عليهـ(ـا) ذلك الاسم، وبين الدلالة الحافّة (المعنى، المفهوم)، أي دلالته. 
 
المشكلة الثانية في نظرية المعنى المرجعية تنبع من الجُمل التي مع أنّها دالّة، تزعم أنّها تحيل على مرجعٍ مّا، ولكنها في الواقع لا تفعلُ. من ذلك التوصيف التعريفيّ "ملِك فرنسا الحاليّ"، فهذه العبارة لها معنى، مع أنه لا وجود للشخص الذي تشير إليه. لو كانت هذه الجملة لا معنى لها، لأدركنا أنه لا مرجعَ لها حاليّا. إنّ تحليل رسّل (Russell) لمثل هذه الجمل، ومعالجة الفيلسوف الأمريكيّ كواين (Willard V.Quine) المماثلة لمثل هذه الأسماء، نحو ساربروس (Cerberus)، يفصلان المعنى عن الإحالة عبر القول إنّ هذه العبارات، متى استـُعملت في جُمل، هي مساويةٌ لحزمة من القضايا الوجودية؛ أي القضايا غير ذات الإحالة المحدَّدة. من ذلك قولك "ملك فرنسا الحاليّ أصلع"، يعني "يوجد على الأقلّ وعلى الأكثر شخص يحكم فرنسا، ومَن يحكم فرنسا أصلع". فهذه القضايا ذات معنى، صادقةً أم كاذبةً، دون إحالة محدّدة.
 
والواقع أنّ الأسماءَ كلماتٌ غيرُ نظاميةٍ للغاية. فاسمُ الأمينِ العامِّ الثالثِ للأمم المتحدة يو ثنت (U Thant) لا معنى له في اللغة الإنجليزية. لكنه يدلّ في اللغة البيرمانية (Burmese) على شيء مّا، لا يهمّ، والإحالة لا تتأثر بمعنى الاسم أو بانعدام المعنى. الأسماء، كما هي، لا تنتمي إلى مفردات اللغة، ومعظمُ المعاجمِ لا تذكرها. لذلك، وبغضّ النظر عن معقوليتها المبدئية، فإنّ فكرة الإحالة لا تـُعيننا في فهم طبيعة المعنى اللسانيّ( 9).     
 
إذا كان سقراط "عرّف" الأفكار، فإنّ أفلاطون فصَلها عن الواقع المحسوس. والجدل هو علم الأفكار المفصولة عن توليفاتها. ولعلّ الفكر الغربي، والإنسانيّ من ثمّ، قد ورث عن أفلاطون إشكالية المعنى، حيث إنّ المعنى هو الفكرة أو الجوهر أي المبدأ المفهوم من قِبل الواقع ومن قِبل الفكر، على حدّ سواء.

Pages