You are here

قراءة كتاب أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

كتاب "أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب"، هذا الكتاب محاولات في دراسة بعض الجوانب المهمة في الدرس اللساني، ونعني جانب المعنى وما يحفّ به من تطلعات نظرية وإجراءات عملية محفوفة بكثير من التشويق والاعتياص، في آن.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار زهران
الصفحة رقم: 4
لكنّ الفكر القديم ترك لنا طرُقا أخرى لطرح مشكلة المعنى، وهي أقلّ بُعدا من طريقتنا في مساءلة العلامة والمعنى. إنّ أرسطو الذي رفض تعالي الأفكار الأفلاطونية وعوّضها بمفهوم "الصورة" الكامنة في الأفكار المجسّدة، فتح تقليدا آخر استمرّ حتى القرون الوسطى، إنه تقليد المفهوم (concept)(10 ). ليس المفهوم شيئا نتحصّل عليه عبر الفكرة، ولكننا نستخلصه بالتجريد من التجربة المحسوسة، والفكر المفهوميّ ليس مجرّد نتيجة لتجربة محسوسة، ولكنه يستخلص الصورَ المجرّدةَ، الكلّيّاتِ (11) (les universeaux)، كما كان يُقال في العصور الوسطى، من الموادّ الحسّاسة التي تشتمل عليها.
 
إنّ تدبُّر عملية التجريدِ لأمرٌ ذو أهمّية قصوى في التساؤل عن الصلة بين اللغة والفكر، مثلما تشير إلى ذلك التقاليدُ الوسيطةُ. وهذا التساؤل يتمّ في إطار الاختصاصات التي لها – من وجهة نظر الفلسفة وعلم الكلام – دور التدريب على الخطاب: البلاغة والنحو والمنطق. وبالخصوص النحو التنظيريّ
 
 ( la grammaire spéculative) الذي ظهر في القرن الرابع عشر الميلاديّ وشهد تقدُّما ملحوظا في نظرية العلامات.
 
ومع ذلك يظلّ التركيز، خلال العصور الوسطى، في الاختصاصات الرئيسية للفلسفة ولعلم الكلام، على الصلة بين المعنى والعلامة، أقلّ من التركيز على "صيغ التعيين" و"الدلالة" و"صيغ التعقـّل" و"صيغ الوجود". وهذا من أجل سبب رئيسيّ: المذهب المفهوميّ الذي قطع عن يمينه مع واقعية الأفكار، يريد أن يحتفظ عن شِماله بكلّ اختزالٍ للكلّيّات، سواء إلى صُوَر حسّاسة مستخلَصة منها أو إلى لغة تسيّرها، فقد أخذ التنازع بين الكلّيّات شكل خصام على واجهتين: هل الكلّيّات واقعية، بالمعنى الأفلاطونيّ أم هي مفهومة فقط؟ وإذا كانت مفهومة فقط، هل تـُشتقّ ممّا هو حسّاس، أم إنّ لها صيغةَ وجودٍ خاصّةً لا هي واقعية ولا هي ذهنية، ولكنها "موضوعية"؟ وحدها المدرسة الاسمية (nominalisme) من بين كلّ المدارس الفكرية الوسيطة، قبل القرن الثامن عشر، ربطت صلةً حميمةً بين الكلّياتِ والأسماء المسندة إلى تجارب مركَّبة، فلعلّ الاسمية هي سلـَف كلّ المدارس التي تربط المعنى بالعلامة مكان الفكرة أو المفهوم.
 
 القرن السابع عشر والنزعة الاختبارية الحديثة
 
ولـّد هجوم الرياضيات وإعادة تنظيم المنهج الفلسفيّ وفق المنوال الرياضيّ، قطيعة في القرن السابع عشر مع تصوّر متصل شديد الاتصال برؤية للعالم تسيطر عليها الفيزياء الأرسطية. فانفتح عصر جديد لفلسفة الأفكار. وليست عبارة قطيعة من قبيل المبالغة. 
 
إنّ المفاهيم الجديدة للفيزياء الرياضية مع غاليليه وديكارت أقرب إلى الأفكار الرياضية الأفلاطونية من مفاهيم أرسطو الكيفية. فقد عاد إلى جانب الفكرة الحدس الذهنيّ. علينا إذن أن نشرح كيف أنّ أفكارنا لها معنى عبر الدلالات التي ترتبط بالأفكار. إنها إذن الأفكار التي يُدركها الفكر مباشرة، وهي التي تنشئ دلالات كلماتنا.
 
هكذا، فإنّ النزعة الرياضية للفلسفة الديكارتية تقلب الصلة بين العلامة والمعنى، كما فهمتها المدرسة الاسمية، وحتى المدرسة المفهومية الوسيطة. 
 
وعاد الموقف الاسميّ إلى الظهور مع النقد الاختباريّ للأفكار الديكارتية واللايبنتيزية؛ إذ يعني هيوم بـ"الفكرة" الانطباعات المحسوسة التي تكون الصور فيها تعابير مخفـَّفة. وفي الوقت نفسه، ثمّة فجوة يجب سدّها بينهما، من جهة (بين هذه الانطباعات وهذه الصور)، ومن جهة أخرى بين مفومَيْ الفكر المجرّد ومعانيه.
 
هكذا دُفعت النزعة الاختبارية إلى إدراك مسارات مختلفة وتكوّنات مختلفة مجعولة لاشتقاق "المعنى" من "المحسوس". بين هذه الإجراءات والتكوّنات يجب أن توفـّر علاماتُ لغتنا المرتكز الحاسم لذلك. ههنا نصل إلى وضعية المشكل عند كندلاّك (Condillac) (عاش بين سنتي 1741م و1780م) وأتباعه؛ إذ المعنى عنده مشتقّ من العلامة. والعلامات لها في الواقع نفوذ تعويضيّ مُذهل: فالعلامات مرصودة للتعبير عن الأشياء، ولكن قد يُراد ببعضها التعبيرُ عن البعض الآخر.
 
ويمكن أن يُفسَّر هذا التعويض في إطار مذهب التداعي (associationisme): إذا أُعطيَ شيئان معًا، فإنّه يمكن أن يُذكر أحدهما عندما يُعطى الآخر، ثمّ يُذكر عند غيابه، ليُعوِّضه في النهاية. ومن ثمّة تكون لنا علامات، وهي معوِّضات ممثِّلة للأشياء، ثمّ لعلامات أخرى. ومن هنا تنقلب نظرية المعنى: بدل أن يرتكز المعنى على الفكرة المعطاة أزليّا في الفهم قبل معنى الكلمات، فإنّ تكوّن المعنى يرتكز على تكوّن العلامات، وهي الشيء الوحيد الذي يقدر على أن يسبق معنى كلماتنا.
 
هكذا، حُلَّ مُشكلُ العلامة والمعنى على حساب إشكالية أخرى هي إشكالية الجوهر والفكرة، عبر النحو التنظيريّ في بدايات القرون الوسطى وخلالها وفي أواخرها ثمّ عبر اختبارية العصور الحديثة، وصولا إلى نظرية العلامات عند كندلاك. في العلاقة بين العلامة والمعنى، يقع التركيز على العلامة أو على المعنى، بحسب ما إذا كانت العلامة هي مرتكز المعنى الوحيد أو بالمقابل، بحسب ما إذا كانت ملـَكة فهْم الذهن شيئا مّا بوصفه معنى يفسِّر كون العلامات تعمل بوصفها علامات، أي بوصفها قـُدرةً تصلح لكذا وموضوعةً لكذا.

Pages