You are here

قراءة كتاب أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب

كتاب "أسئلة الدلالة وتداوليات الخطاب"، هذا الكتاب محاولات في دراسة بعض الجوانب المهمة في الدرس اللساني، ونعني جانب المعنى وما يحفّ به من تطلعات نظرية وإجراءات عملية محفوفة بكثير من التشويق والاعتياص، في آن.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار زهران
الصفحة رقم: 5
الفكر المعاصر 
 
هذا الاضطراب مُلاحَظٌ بوضوح في الفكر المعاصر. إذ يُنكر كانط، مؤلِّف كتاب نقد العقل المحض اللغةَ ودون أيّ عودة إلى الحدس الذهنيّ ولا إلى نظرة الأفكار، يؤسّس كانط معنى قضايانا الاختبارية على أساس عمليات الحُكم، وهي عمليات ضبطتها هي بدورها بنى الفكر: الزمكان، مَقولات الكمّ والكيف والعلاقة (السبب) والجهات (الواقعيّ، الممكن، الضروريّ)، هذه المقولات لا تنبثق من نحو لغاتنا، بل يمكن أن تـُستنتـَج مباشرة من التجربة ومواضيع التجربة [أي المَقولات] بصفتها شروط إمكان تلك التجربة. هكذا توفـِّر الفلسفة المتعالية (transcendantale) منوالا قويّا لا يُشتقّ فيه المعنى من العلامة. وقد ازدهرت في بدايات القرن العشرين نظرياتٌ للمعنى أدركت – في ردّ فعل ضدّ المذهب النفسويّ الذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر – معنى القضايا المنطقية بوصفه مستقلا عن "التمثيلات" المتعدّدة للمعنى الواحد (في أوقات مختلفة عند الفرد الواحد أو عند أفراد مختلفين). ونجد عند فريجه (Frege) ومينون (Meinong) وهوسرل (Husserl) وراسل (Russel) في بداياته أنّ "المعنى" "موضوعيّ" و"مثاليّ"، ومنفصل عن المحتويات الذهنية، ومن ثمّة عن العلامات اللسانية. هكذا تقترب نظرية المعنى من الأفلاطونية مجدّدا، أو على الأقلّ تقترب من تصوّر الوجود الموضوعيّ لبعض مفكـِّري العصر الوسيط، وهو تصوّر يفترض أننا نعترف للوجود بتنوّع الدلالات وأننا ندرك ضروبا أخرى للوجود عدا وجود الأشياء المحسوسة. ولكننا نجد، وحتى بالنسبة إلى المفكّرين الأكثر نزوعا إلى الحديث عن "المعنى في ذاته" بالنسبة إلى الملفوظات أو القضايا، صلة ً مّا بالعلامات قد تمّ ترتيبُها. هكذا حاول هوسرل في كتابه بحوث منطقية إرجاع المعنى، الذي فكّ أيّ ارتباط له في السابق بالمحتويات الذهنية، إلى الأعمال القصدية التي أصبح (المعنى) رابطـَها الموضوعيَّ. هذه الصلة القصدية، بدورها، تمّ استثمارُها في "عبارات لغوية" من قبيل: المعنى هو معنى هذه العبارات، من ذلك عنوان البحث المنطقيّ الأول: العبارة والدلالة. فهذا العنوان يقودنا إلى الصلة بين المعنى والعلامة؛ ذلك أنّ "العبارات" التي يشتغل عليها المنطقيّ هي علامات من لغتنا ودلالة القضايا هي أيضا معنى هذه العلامات. وبذلك تعود المنطقوية (logicisme)، بعد ابتعاد عن أخذ العلامات بعين الاعتبار، إليها عبر مخرج تأمُّل الصلةِ بين موضوعات الفكر وأعماله.
 
ولكن مع ذلك، فإنّ نظرية المعنى تظلّ مهيمنةً على نظرية العلامة. وقوانين المعنى هي قوانين العلامة. إنّ هوية المعنى "الواحد" هي التي تسمح للعلامة بأن تدلّ. وبشكل أعمق، فحسب المنطق الصوريّ والمنطق المتعالي عند هوسرل، فإنّ ضروب منطق "المعنى" الثلاثة هي التي تتحكّم في استعمال العلامات: منطق أوّل، هو منطق العبارات المُحكـَمة البناء، يبيّن قواعد التلاؤم المتبادل بين الدلالات التي تسمح بإنشاء نحو منطقيّ وأساس لكلّ الأنحاء الاختبارية؛ ومنطق ثان، هو منطق الانسجام، ويعطي القواعد التي تتحكّم في سير الخطاب؛ ومنطق ثالث، هو منطق ملء الفراغات أو التحقّق، ويتحكّم في كلّ التمشيات التي نـُسند عبرها قيمَ الحقيقة لأقوالنا، ومن ثمَّ نـُسند مرجعية ً لخِطابنا.
 
لكن التقليد الاختباريّ المحض، الذي يُعنى بضبط المعنى على حساب العلامة، لم يُنتزَعْ تماما، بل إنه يتمّ التعبير عنه بعنفُوان في الوضعية المنطقية بمختلف أشكالها وخصوصا في مذهب المواضعة (conventionnalisme) الذي يهمّنا هنا بشكل أكثر مباشرة ً؛ فحسب هذه المدرسة، فإنّ قوانين الفكر هي مواضعات "يقع" فيها أفراد المجموعة المتكلّمة. ولا يوجد جوهرٌ يكمن خلْف المعنى. ولكنّ دلالات كلماتنا إنـّما هي "سِمَاتٌ" (étiquettes) (والعبارة لنلسن غودمان(Nelson Goodman)( 12)، تـُعيّنُ قيمتـَها المواضعة ُ والعُرفُ. ومن العبث تغييرُها أو تبديلـُها أو توسيعُها. وبالنسبة إلى مذهب المواضعة ليست مفاهيم العلم فحسب، بل مبادئه الأساسية أيضا من طبيعةٍ تمّ التواضعُ عليها، ومن ثمّة، فهي مرتبطة ٌبمؤسّسة اللغة. هكذا اقترح ماكس بلاك (Max Black) حلاّ دلاليّا خالصًا لمشكل الاستقراء: إذا كان يحقّ لي المرور، في ملفوظ قوانين الطبيعة من "في معظم الأحيان" إلى "دائما"، فذلك لأنّ استعمال اللغة يتضمّن هذا الافتراض. ففي كلّ مرّة نسعى إلى إعطاء حلّ دلاليّ للمشاكل الإبستيمولوجية، ينقلب المعنى إلى جانب العلامة من جديد. فتصبح قوانين العلامة متحكّمة في قوانين المعنى. 
 
 المعنى في اللسانيات البنيوية:
 
إنّ قصّة مُشكل المعنى والعلامة الفلسفيّ توفـّر لنا خلفيةً للتحليل اللسانيّ الخالص لهذين المفهوميْن. وإذا كان ظهور اللسانيات قد أنشأ، في واقع الأمر، قطيعة مهمّة في تاريخ دراسة المشكل، فإنه لا يُبطل – مع ذلك – الرهانات الفلسفية. ويمكننا، في مقاربة أولى، أن نزعم أنّ اللسانيات البنيوية تضع مفهوم المعنى ضمن إمبراطورية العلامة من جديد.    
 
 الدالّ والمدلول
 
إنّ إمكانية مبدأ وصل مفهوم المعنى بمفهوم العلامة متضمَّنة في تحليل العلامة في كتاب دي سوسير دروس في اللسانيات العامّة، وقد أصبح اليوم كلاسيكيا. العلامة هي ظاهرة ذات وجهين تُقابِلُ وتَصِلُ بين دالٍّ (صوتيّ، مكتوب، إشاريّ، إلخ.) ومدلولٍ متعلِّقٍ به. وليس المدلول شيئا، ليس كياناً خارجَ اللغة، إنه فقط الوجه الآخر للعلامة، أيْ هو كيان لسانيّ محض، إنه قسيم الدالّ. سوسير نفسه يُضفي تأويلا نفسيا واجتماعيا على هذا الترابط: الدالّ هو الصورة الصوتية للكلمة، والمدلولُ هو المفهومُ الموافقُ لها، أي هو الصورةُ الصوتيةُ للكلمةِ، والمدلولُ هو المفهومُ الموافقُ لها، أي هو مفهومٌ ينتمي إلى الرصيدِ الذهنيِّ للجماعةِ اللغويةِ؛ المدلولُ – من وجهة نظر المتكلِّم – مُودَعٌ في اللاوعي، ومن ثمّ؛ فإنه يتمّ استدعاؤه عند إنجاز عمل قوليٍّ مخصوصٍ. ويمكننا أن نُغادر هذا التوصيفَ النفسيَّ والاجتماعيَّ، والأهمُّ أن نحتفظَ بالترابطِ بين الدالِّ والمدلولِ مثل وجه الورقة وقفاها. لقد تمّ اقتطاعُهما معا بشكل متماثلٍ بواسطة مقصِّ المواضعةِ اللسانيةِ.
 
هكذا لا يمكن أن نقول إنّ الصلةَ بين الدالِّ والمدلولِ اعتباطيةٌ، على الأقلّ بمعنى أنّ العلامة إجمالا ذات علاقة اعتباطية بالشيء المسمّى. غير أنّ هذا الربط يمكن أن يكون اعتباطيا إذا أردنا أن نشير إلى أنّ السمة المفهومية للمدلول لا تبرّرُها سمةُ الدالِّ الصوتيةُ أو الخطـّيةُ أو الإشاريةُ، ولكننا نذكـِّر فقط بأنّ الدالّ والمدلول غير متجانسيْن؛ إذ ينتميان إلى نظامين مُختلفين، وليسا مترابطين تمام الترابط.   

Pages