تسلقت تلك الأسوار المشيدة من الألم والمرصوفة بالآهات... اقتحمتها حاملاً قلماً حبره الصدق وريشته الأمان... تداخلت بين ردهات الأسرار... فتشت في صفحات العذاب... تعمقت في جنبات الغموض.. أبحرت في شطآن الوضوح... حاورتهم بقلب حان...
You are here
قراءة كتاب أسرار خلف الأسوار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
شكـراً... أديب!
في رحلة حياتي محطات لا تنسى يمتزج في طياتها الأنين.. وتتداخل في جنباتها الآهات.. إنها حياة أشبه بالممات.. فقصتي لا يمكن أن أسردها بكاملها في هذه الأسطر.. ولا يمكن أن أنثرها على هذه الصفحات ولكني سوف أحاول أن أقف عند بعض تلك المحطات، وأبدأ سطورها من طفولتي التي عشتها بين أحضان أسرة تسودها المحبة والألفة وتغمرها الفرحة والسعادة.
حباني الله أباً عطوفاً وأماً حنوناً وأخوة متحابين.. لم تكن طفولتي تمتاز بشيء عن أقراني، كانت تعتريها براءة الطفولة ويزينها شيء من شقاوتها في ذلك الحي الشعبي القابع في أطراف مدينة جدة الذي التحف الماضي بكل تفاصيله وبكل تراثه وإرثه الطاغي على النفوس الطيبة مروراً بالمباني الطينية التي تفوح منها رائحة الحب الصادق بين أفراده وانتهاءً بظلمات لياليها الساحرة المشعة بفنار الأمن والاستقرار، والجدير ذكره أن هناك ما يميز هذه الأسرة ويطغى عليها، هو روح التنافس والتفوق الذي غرسه والداي ورعياه في أبنائهم العشرة، ستة ذكور وأربع بنات... كنا دائماً من العشرة الأوائل في صفوفنا الدراسية وما إن وصلت إلى الصف الثالث الثانوي حتى أصبحت شاذاً عن قاعدة التفوق والمنافسة، لقد تكرر إخفاقي في تلك المرحلة ومن ثم أتيت بمصطلح جديد ولفظ غريب داخل أسرتي ذلكم المصطلح هو « الرسوب».... رسبت لثلاث سنوات متتالية في القسم العلمي ومن ثم قررت الخروج من المدرسة وفسح المجال لأخوتي الذين تستوطن أرواحهم الجد والمثابرة وأن احميهم من عدوى الرسوب والعقدة التي حطت رحالها وسكنت نفسي المحطمة وأطبقت عليّ جراء إخفاقي في هذه السنين، ومن هنا بدأت بوادر التحول حيث أصبحت أجد ضغوطاً من أخوتي جميعهم ووالدتي، إذ لا يتحرجون من نعتي بالألفاظ التي تجرحني ومحورها الأساس كوني (عاطلاً) عن الدراسة وعن العمل أيضاً... لكن والدي كان فسحة الأمل بأحرف كلماته المنيرة ولمساته الحانية هو من يجبر كسري ويصبرني ويجعلني أصابر وأستبصر الغد المشرق.. كان أخي فيصل الذي يكبرني يتميز عن شخصي في كل شيء ومحبوباً من الجميع وكنت أنا من يوجه إليه الذم وهو من يشار اليه بالبنان، ولّد ذلك حقداً دفيناً في داخلي تجاه أخي، وأشعل النار التي لا تحرق إلا معنى الأخوة بداخلي وكان من يقذف لهيبها حطباً من يعلم بأنه أخي عدا والدي!! حاولت جاهداً أن أنتقم منه وأضيق الفجوة التي تتسع بالاختلافات بيننا لرد اعتباري في مواقف متعددة ولكن باءت جميع محاولاتي بالفشل ولكنها كانت تزيد من حدة تلك النيران الملتهبة في هشيم فؤادي، قررت الهروب من تلك الأجواء التي أشعر فيها بأنني بلا هوية... وبلا وجود داخل أسرتي.... وجدت ضالتي في صديقي وليد ابن العم جمال الذي كان منزلهم يلاصق منزلنا والأسرتان جارتان منذ زمن... كنت دائم الذهاب إليه وكنا نِدّين، اجتمعنا ثلاثة في السمر أنا وهو وثالثنا لعبة الشطرنج ولايشتت سمرنا إلا بعد أن يخلع الليل رداءه معلناً رحيله ويرتدي الصبح ثيابه مبشراً بقدومه! لعبة الشطرنج التي أحسست بين مربعاتها المتعددة وبين أحجارها المتفاوتة أنني أبحث عن تميزي، عندما كنت أمسك بإحدى قطعها التي تمثل رمزاً للجيوش المتحاربة وأتقدم لإطاحة خصمي بعدها أشعر بنشوة الانتصار من أعماقي وكأني أطحت واحداً من أولئك الذين تعودوا التعدي على شخصي، أظهرت في الأربعة والستين مربعاً تفوقاً ملحوظاً على جميع من نازلني وكان الدافع وراء إصراري على تعلم هذه اللعبة والخوض في أسرارها ومعرفة مهارتها هو أنها لعبة للأذكياء كما يُقال عنها، كنت أريد من هذا أن أعوض النقص الذي أصبحت أشعر به وخاصة أمام ذلك الأخ (الفيصل)، وفي يوم من أيام الأعياد وكما جرت العادة وأنا أتسامر مع وليد جاءنا سامي ذو القامة الفارعة والبشرة السمراء والابتسامة التي لا تفارق مبسمه وهو صديق منذ زمن لوليد.... كان سامي مستغرباً ومندهشاً لجلوسنا في هذه الأيام معللاً ذلك بأن من هم في سننا في أفراح وبهجة والكثير منهم خارج البلد لقضاء هذه الأيام السعيدة وأخذ يحقرنا ويشمت بنا.. ولكنه فاجأنا بعدها بأن لديه الحل بقوله:
- عندي لكم سيجارة تلف بكم العالم كله تروحوه وأنتم هنا مكانكم ولا تتحركوا...
وأخرج من جيبه سيجارة ملفوفة بطريقة مختلفة وأغرانا بتدخينها معللاًَ بأنها «التذكرة» التي نستطيع من خلالها التنقل بين أرجاء العالم الفسيح..... رفضت ذلك وتذرعت بخوفي من أهلي وأخذت أردد:
- لا.... لا... ما أقدر... مقدر أخاف أهلي يكشفوني أو يشموا ريحتي وبعدين أروح في داهية....
لظني بأنها سيجارة تبغ عادية وكنت وقتها لم أدخن التبغ، وأسترسل في حينها بتوضيح الأمور وتبسيطها ومن ذلك بأن ليس لها رائحة ولن ينكشف أمري وأنه «حشيش» للمزاج فقط..... رفضت أما وليد فراح يدخن معه واستمر الاثنان في تحقيري بأنني خائف وجبان والكثير من الصفات المنافية للرجولة.... وكان وقع تلك الكلمات على قلبي يحطمني ويجرح ما بقي من كبريائي التي تعاون اخوتي على القضاء عليها... بعد برهة من الزمن.. أصابتني الدهشة من الحال الذي أبصرت فيه وليد فلم تظهر عليه آثار من تلك السيجارة مما دفعني إلى أن أصرخ بأعلى صوت لحروفي وأمسكتها بقوه زائفة وقلت له:
- هااااااااااااااات.