كتاب " البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر " ، تأليف د. إبراهيم عبدالله البعول ، والذي
You are here
قراءة كتاب البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ويعاد ترتيبها على النحو الآتي:
هي القدس: مفتاح السماء وبابها
ومنها، إلى الرحمن تفضي شعابها
حجارتها للمؤمنين قلائدٌ
وكحل عيون المؤمنين ترابها
ب - ب/ب- - -/ب- ب/ب- ب -
ب- ب/ب - - -/ب- ب/ب- ب -
ويؤكد عموديتها كذلك أنه بدأ القصيدة ببيت مصرع والتزم بالقافية ومعطياتها في كل أبيات القصيدة، وهكذا يمكنك أن تصنع الصنيع نفسه مع باقي قصائده التي نظمها على طريقة الشعر الحر ومستخدماً فيها البحور المركبة.
لقد تعمد الشاعر كتابة بعض القصائد على طريقة الشعر الحر في الكتابة على الرغم من أنه استخدم البحور المركبة التي لا تسعف كثيرا في استخدام هذا الشكل، وفي الوقت الذي كتب فيه قصائد أخرى وعلى بحور مركبة، كتبها بالطريقة التقليدية، فضلاً عن أنه كتب قصائد على بحور صافية وفق الطريقة التقليدية في مكان ما، وكتب أخرى على البحور نفسها ولكن بطريقة حرة، وفي الوقت نفسه يمكن إعادة ترتيبها وفق الطريقة التقليدية. بمعنى أنه رسم قصائده على طريقتين:
1. قصائد على بحور صافية وفق الطريقة التقليدية (عمودية) وفي الوقت نفسه كتب قصائد على بحور صافية وفق طريقة الشعر الحر إلا أنها تعود إلى الطريقة التقليدية (عمودية) بإعادة ترتيبها.
2. قصائد على بحور مركبة وفق الطريقة التقليدية (عمودية) وفي الوقت نفسه كتب قصائد أخرى على هذه البحور وفق طريقة الشعر الحر، إلا أنها تعود إلى الطريقة التقليدية (عمودية) بإعادة ترتيبها.
وهنا نطرح التساؤل التالي، لماذا لجأ إلى ذلك، وبخاصة في طريقة كتابته للقصائد التي يمكن إعادة ترتيبها -مهما كان بحرها صافياً أو مركباً- لتصبح قصائد عمودية؟.
ولتفسير هذه الظاهرة أقول، لا بد أن الشاعر كان يعرف هذه التشكيلات الخطية لقصائده، وأنه كان يقصدها ليقيم منها بعداً فنياً جديداً يعتمد على الفضاء البصري في تحققه عند القارئ ابتداءً، وفي دلالته النصية كذلك، ولا سيما أنه كتب هذه القصائد بخط يده، ولم تكن مرقومة على الآلة الكاتبة. ولننظر إليه في قصيدة (هنا كان) لنلحظ ذلك، يقول:
هي القدس:
مفتاح السماء،
وبابها ..
ومنها،
إلى الرحمن ..
تفضي شعابها ..
حجارتها: للمؤمنين
قلائدٌ ..
وكحل عيون المؤمنين
ترابُها ..
.. .. ..
.. .. ..
وتحملني الذكرى
على رمش عينها،
إليها ..
فلماذا يصر الشاعر على هذا الشكل ويكتبه بخط يده على الرغم من أنه يعود بإعادة ترتيبه إلى الشكل العمودي كما لاحظنا سابقاً؟. قد تكون الإجابة في أن الدافع الحقيقي هو جعل التشكيل الموسيقي في مجمله خاضعاً خضوعاً مباشراً للحالة النفسية أو الشعورية التي يصدر عنها الشاعر، فالقصيدة في هذا الاعتبار صورة موسيقية متكاملة تتلاقى فيها الأنغام المختلفة وتفترق، محدثة نوعاً من الإيقاع الذي يساعد على تنسيق المشاعر والأحاسيس المشتتة(19). ثم إن هذه التعديلات الشكلية التي أدخلها الشاعر على قصيدته جاء بها ليتحقق الشاعر من نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه، فلم يعد الشاعر حين يكتب القصيدة الجديدة يرتبط بشكل معين ثابت للبيت ذي الشطرين وذي التفعيلات المتساوية العدد المتوازنة في هذين الشطرين(20).
ولعلنا نجد الإجابة فيما لاحظه الدارسون في قيمة التشكل البصري وخصائصه، الذي يتجلى بشكل واضح في قراءة بعض التجارب الشعرية التي تعتمد علامات غير لفظية وتستعين بإمكانات الطباعة التي علامة العلامات في النص، وتعتمد طرائق جديدة في التعبير، وتنويعات لم تألفها العين من قبل توجه المتلقي وتفرض عليه لوناً مخصوصاً من القراءة عند التعامل مع هذه النصوص. وفي هذا الإطار تنزل القراءة البصرية وتكتسب مشروعيتها من خلال اهتمامها بطرائق تنظيم الصفحة التي تمثل تصوراً معيناً للكتابة، إذ لم تعد اللغة وحدها محور اهتمام، وإنما باتت أشكالها وتجلياتها المختلفة وكيفية عرضها وعلاقتها بمعمار الصفحة محط اهتمام الباحثين الذين انشغلوا بالقراءة البصرية، ولا سيما أن التشكل البصري غدا بنية أساسية من بنى الخطاب الشعري الحديث ودالاً ثرياً يوجه فعل التلقي، إذ لا يمكن للمتلقي أن يستكنه النص ويغور في داخله ما لم يتمثل كلية صورته "الطباعية" ذلك أن جملة أنساقه غير اللغوية ليست بمعزل عن الدوال اللغوية، كما أن هذه العلامات غير اللغوية في علاقتها بجماع مكونات النص التعبيرية والتركيبية كثيراً ما تجد منزلة الخطاب الشعري الحديث وتكون على صلة وثيقة بالدلالة وطرق انبناء المعنى(21).
ولعل البياض المتجسد بالحذف في هذا المقطع هو موضع الشاهد، إذ إن البياض لا يجد معناه وحياته وامتداده الطبيعي إلا في تعالقه مع السواد، إذ تفصح الصفحة بوصفها جسداً مريئاً عن لعبة البياض والسواد بوصفه إيقاعاً بصرياً يتجه إلى حالة الإبصار، ويوجد في صيغ الكتابة ذاتها ويتشكل بتشكلها على خلاف إيقاع البنى العروضية التي تبدو تخارجاً عن النص. وكثيراً ما يحملنا الإيقاع البصري إلى فضاء النفس وانفعالاتها وحالاتها المضطربة المتوترة لحظة الكتابة، لحظة منفردة فارة من زمنيتها متلاشية في بياض الورق(22).
لقد جاء البياض في المقطع الشعري السابق مقترناً بنقطتين أو أكثر، وقد امتد أحياناً ليشغل سطراً أو سطرين، ولم يكن هذا عبثياً وإنما كان مظهراً من مظاهر الإبداعية؛ يقول:
هي القدس:
مفتاح السماء،
وبابها..
فقد يكون البياض أحياناً طرفاً في لعبة الوجود والعدم ويغدو البياض رمزاً للموت بينما يمثل السواد الخزان الحاوي لكل الأشياء والحامل للحياة والإخصاب(23)، على نحو ما يمكن أن نلاحظ بعد النقطتين الرأسيتين، إذ يتوقع أن يكون مفهوم القدس حاضر في الأذهان قائم في الوجدان، بيد أن الشاعر تركه بياضا ليؤكد (العدمية) أي عدم وجود ذلك في الأذهان والوجدان، فيعود للسطر الثاني بسواد يذكر بالمفهوم ويلمح إليه واضعاً فاصلة بعد كلمتين موحياً للمتلقي أن يملأ البياض ليصل إلى (وبابها) الذي يترك بعده نقطا تسترعي انتباه المتلقي ليقف على المسكوت عنه، وبهذا يستحيل هذا البياض إلى بنى صامتة تخفي وراءها جملة من البنى الناطقة وتكشف في الأثناء الأفكار الحبيسة، التي تمنح القارئ حرية أكبر في التأويل وتجعله يبحث ويشارك في فعل الكتابة بملء الفراغات المتناثرة على جسد النص(24).