كتاب " البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر " ، تأليف د. إبراهيم عبدالله البعول ، والذي
You are here
قراءة كتاب البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ونظم الشاعر قصيدة (الكتابة بالدم على نهر الأردن) على بحري الرمل ومجزوء الوافر، أو لنقل الوافر وفق اشتقاقه من الدائرة العروضية المسماة بالدائرة المجتلبة التي يشتق منها بحر الهزج وبحر الرجز وبحر الرمل.
وتقترب هذه القصيدة من (البند) العراقي، فالبند "خلافاً للشعر العربي كله يستعمل بحرين اثنين من بحور الشعر، يجمع بينهما ويكرر الانتقال من أحدهما إلى الآخر عبر القصيدة كلها، والبحران الوحيدان المستعملان فيه هما الهزج والرمل"(36). ونحن لا نقبل هذا القول بكل ما فيه من تعميمات بيد أننا نأخذ منه أن البند يقوم على بحرين هما الهزج والرمل. والقدر المشترك بين هذا الملحظ وقصيدتنا هو أن شاعرنا أقام قصيدته على بحري الوافر والرمل، وهناك تقارب كبير جداً بين الوافر والهزج وبخاصة مجزوء الوافر الذي استعمله شاعرنا، ومما يجدر ذكره أن شاعرنا استعمل تفعيلة الهزج (مفاعيلن ب - - -) (47) مرة في حين استخدم (مفاعَلَتُن ب - ب ب -) التفعيلة المميزة للوافر (6) مرات في القصيدة كاملة. صحيح أن هذه التفعيلة مميزة للوافر بيد أن الكثرة الطاغية لتفعيلة الهزج تجعله أقرب إلى روح الهزج منه إلى الوافر. وقد لاحظ بعض الدارسين أن ثمة تعالقاً وتداخلاً بين الهزج والوافر ورأى أن الهزج ضرب من الوافر المجزوء وليس هو بحر قائم بذاته(37) ، وهو رأي مقنع لأن صور تفعيلة الهزج هي صورة فرعية من صور تفعيلة الوافر المجزوء. وذلك على الرغم مما وصفه العروضيون من أسس لتفرد كل منهما بخصوصية تؤكده وتدعم وجوده.
ويقترب النفس الموسيقي بين بحري الرمل والوافر إذا ما استخدمت تفعيلة الوافر معصوبة، أي تسكين الخامس المتحرك في تفعيلة (مفاعلتن) التي تنقل إلى (مفاعيلن ب - - -) المساوية لها بالحركات والسكنات، وبينهما علاقة خفية يمكن أن نبينهما بالتقطيع.
مجزوء الوافر المعصوب = مفاعلْتن مفاعلْتن // مفاعلْتن مفاعلْتن
ب- -/ - ب- -/- ب- -/- ب- -/-
الرمـــل: - ب- -/ - ب- -/- ب- -/- ب- -/
والتشابه قوي جداً إذا ما اعتبرنا أن المقطع الطويل في نهاية الوافر، يقابل المقطع الطويل في بداية الرمل، فإن التساوي يكون 100% مئة بالمئة، هذا إذا ما استخدم الشاعر التفعيلات في البحرين صحيحة، ولكن الأمر يستحيل تحققه إلا متكلفاً، إذ من البديهي أن تعتور هذه التفعيلات الزحافات والعلل، وهنا تظهر الاختلافات بين البحرين.
لعل ظاهرة الحزن التي ارتبطت بالبند هي تلك الوشيجة التي تربط بين هذه القصيدة والبند، صحيح أن هذه القصيدة في موقف ظاهره الفرح بالنصر إلا أن باطنه يذكر بمأساة عظيمة هي ضياع لوطن يستحق الصمود والتضحية والتوحد كما في معركة الكرامة.
إن الخلاف ما بين ما جاء به حيدر محمود وما كان عليه البند هو ذلك الخلاف الناعم بين القضيتين على الرغم من اتحادهما في القضية المركزية التي تشترك بقاعدة جوهرها الحزن والأسى.
ولعل القصيدة تنبؤنا بالزمن هذا، فقد جاءت في أربعة وستين سطراً متفاوتة في عدد التفعيلات وجاءت الأسطر الأربعة والعشرون الأولى على البحر الوافر، وكان مضمون هذه الأسطر يعلن عن صفات العدو، فهم الجراد الذي يأكل كل شيء ويترك الأرض جرداء، وهم الذئاب الذين يسرقون النوم والأمن والحرية والحب من أرض تعودت على عطائها. ولما خرج الشاعر عن هذا الإطار في هذا المقطع وعلى البحر نفسه وضعه بين أقواس، ليعلن للقارئ أنه على الرغم من أنه على الوزن نفسه وفي الإطار نفسه إلا أنه مختلف كل الاختلاف عن المضمون السابق فيستحق أن يفصل، ففصله بأقواس، وما كان بين الأقواس وعلى البحر نفسه كان نداء إلى الله بأن يجعل دماء الشهداء ناراً في جوف الأعداء. ثم جاءت الأسطر التالية وعددها اثنان وثلاثون سطراً على بحر الرمل بمضمون آخر يلتصق بأهل الأرض وأصحابها الحقيقيين مستفيداً من معطيات الحياة الاجتماعية وثقافتنا العربية و الإسلامية، فالدم لا يصبح ماء، والشهداء لا يموتون، لهذا هبَّ أهل الأرض من كل مكان متوحدين مقدمين أرواحهم وأنفسهم ودماءهم رخيصة في سبيل الوطن ومسح آثار الجريمة.
وليؤكد لنا الشاعر أن ما جاء في المقطع الأول وعلى البحر الوافر ناشز -كما أشرنا سابقاً- ووضعه الشاعر بين أقواس يعيده لنا في المقطع الأخير في بيئته الصحيحة فيحلله من الأقواس ولا سيما أن الحديث عن تلك الذئاب هنا حديث عن هزيمتهم وتأكيد لاستجابة النداء الذي صرح به الشاعر في نهاية المقطع الأول، فكان النهر؛ نهر الأردن لحظة أن مضى الأعداء يصلي شكرا لله على ما حققه من نصر للعرب المسلمين على أعدائهم اليهود.
وفي قصيدة (الضفتان توأمان) استخدم الشاعر بحري الرجز والرمل، وهما بحران مشتقان من دائرة عروضية واحدة هي الدائرة المجتلبة مما يقرب بينهما موسيقيا على النحو الأتي:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
الرجز: -- ب - /-- ب - /-- ب -
الرمل: - ب - -/- ب - -/- ب - -
ويلحظ من خلال الصورة السابقة أن اقتراباً كبيراً من الوزن في وسط التفعيلات والاختلافات يكون بزيادة المقطع الطويل في بداية الرجز، ومثله في نهاية الرمل، وذلك في حدود التفعيلات الصحيحة بيد أن الاختلاف بيِّن إذا اعتورت هذه التفعيلات الزحافات والعلل. وإذا أثبتنا أمامك صورة التفعيلات التي جاءت في هذه القصيدة على بحر الرمل فإنك ستلحظ مدى الاتفاق موسيقيا بها، لننظر:
- ب -/- - ب -/- ب ب -/- - ب -/- ب ب -
- ب -/- ب ب-/- ب ب-/- - ب -/- - ب -/- - ب -/- - ب -
فإذا علمنا أن (فاعلن) الموضوعة في المستطيل قد جاءت في بداية الأسطر الشعرية، التي تخفي في هذا الموضع نغمتها المتباينة عن بحر الرجز، أدركنا أن هذا يوهم المتلقي للوهلة الأولى أن القصيدة لم تخرج عن موسيقاها العامة القائمة على بحر الرجز، فضلاً عن أن موسيقى (فاعلن) مألوفة أيضاً في بحر الرجز في نهايات الأسطر، والإنشاد للقصيدة قد يجعل البدايات في الأسطر نهايات لأسطر تسبقها وهذا يؤكد ثانية الانسجام الموسيقي في هذا المقطع مع بحر الرجز، قد لا يشعر به المتلقي.
إن الشاعر يشعر بهذا التباين ويحس باختلاف الوزن ولا سيما أنه وضع هذا المقطع في وسط القصيدة وهو مقطع قصير، وضعه بين أقواس ومضمونه يؤكد أنه كالجملة المعترضة في هذه القصيدة فهو نداء لبلاد الشاعر بضرورة وحدة الصف وهذا يتناغم مع ما جاء تالياً لهذا المقطع في القصيدة على بحر الرجز، إذ كان مما جاء على بحر الرجز تأكيد للوحدة القائمة بين ضفتي نهر الأردن، الأردن وفلسطين، فهما توأمان والالتفاف حول ضفتيه صلاة، والموت في سبيله حياة، من أجل رفع راية الإسلام خفاقة فوق مساجده ومصانعه ومزارعه وسفوح جباله مؤكداً ضرورة وحدة الصف.
وكأني بذلك أحس بتناغم قائم بين الموسيقى وما يحس به الشاعر، إذ ما يدركه يؤكد بوجود تمايز بين الشعبين، كما يدرك التمايز بين البحرين العروضيين، على الرغم من أن البحرين يعودان إلى دائرة واحدة، وهكذا الشعبان الأردني والفلسطيني فعلى الرغم مما يحس به الشاعر من التمايز والاختلاف إلا أنهما يعودان إلى أصل واحد، وبهذا فإن مصيرهما واحد، وضرورة توحدهما عظيمة، وهذه المقاربة تأخذ بعين الاعتبار القياس مع الفارق بين الملحظين.