You are here

قراءة كتاب البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر

البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر

كتاب " البنية الإيقاعية في الشعر العربي المعاصر " ، تأليف د. إبراهيم عبدالله البعول ، والذي

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

قصائد جمع فيها بين ثلاثة أوزان

نظم الشاعر قصيدته "بحثاً عن القصيدة، بحثا عن عمّان" على البحر المتقارب، وما يلفت النظر في هذه القصيدة أمران؟ الأول هو أنه جعل في بدايتها بيتين للمتنبي وضعهما بين أقواس ووثقهما وهما على البحر الكامل، والآخر هو أنه جعل لهذه القصيدة هامشاً على غير عادته في كل ديوانه. وما جاء تحت عنوان (هامش) في هذه القصيدة كان على البحر المتدارك. وإذا تعاملنا مع هذه القصيدة كوحدة واحدة من بداية العنوان إلى بداية القصيدة التي تليها، نكون أمام قصيدة تشتمل على ثلاثة بحور شعرية مختلفة هي: الكامل والمتقارب والمتدارك. وظهور هذه البحور الثلاثة أمر طبيعي، لأن ما جاء على كل بحر منها مستقل شكلاً عن الآخر، واستقلالية الشكل لا تعني بالضرورة الفصل التام بين هذه الأجزاء، وإلا لما كانت هناك ضرورة للجمع بينهما في قصيدة واحدة. وسأجتهد في إيجاد رابط بينها بعيداً عن الشكلية المموهة.

ولعل هذا اللون من التناص الموسيقي الذي سمّاه (حسن الغرفي) النص والنص الموازي(38)، ويتعلق الأمر في هذا النوع بالعنوانات الرئيسية والفرعية والتوطئة والتنبيه وما تشير إليه الهوامش، أي كل ما له علاقة حوارية مع النص لغرضٍ مهم(39) ويتجلى ذلك في أن مطلع هذه القصيدة ونقصد به ذلك التناص الذي جاء به الشاعر في بداية قصيدته، وهما بيتان من قصيدة مدح بها المتنبي أبا المنتصر شجاع بن أوس بن معن بن الرضا الأزدي. وقد اشتملت مقدمتها على أبيات غزلية، وليس الغزل في هذه القصيدة إلا رمزاً لمعنى غامض عند المتنبي، وهو الذي يتغنى الشاعر به دون أن يعرب عنه في أول الأمر، وإنما يترك للقارئ فرصة تفهمه، فإذا قدر للقارئ أن يكون عالماً بحياة الشاعر ظاهراً على دخائله، شاهداً لما مازج حياته من حزن وما عرض له في حياته من أسى وحسرة فهو فاهم عنه محقق لما يتغنى به. فالشاعر ليس بعاشق وكذلك شاعرنا بقدر ما يحمل هماً يطيل ليله ويضاعف أرقه ويزيد حزنه كلما مرت الساعات والأيام(40).

وهذا يعني أن الشاعر قد سلك منحى فلسفياً في التفكير يعيده إلى نفسه أولاً وإلى قومه ثانياً كما تكشف أبيات المتنبي. إذ توضح أبيات المتنبي أن الشاعر يرى نفسه غريباً مشرداً سيء الحال، وهو يرى قومه بعد ذلك غرباء مشردين، قد تسلط عليهم من كان ينبغي أن يتسلطوا عليه، واستأثر بالأمر دونهم من كان ينبغي ألا يكون له من الأمر شيء. ثم إن المتنبي يبكي على الشباب وهو في ريعان الشباب، ويحاول تعليل هذا البكاء، وأكبر الظن أن الشاعر (المتنبي) يتكلف التعليل كما تكلفه حين ذكر لومه للعاشقين واعتذاره بعد ذلك عنهم في البيتين اللذين تعالقا مع نص شاعرنا حيدر محمود، وهما(41):

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني

غيرتهم فلقيت فيه ما لقوا

وأعتقد أن الأجواء النفسية التي كان يعيشها المتنبي تقترب كثيراً من الأجواء النفسية التي يعيشها شاعرنا، مما جعله يعالق نصه بهذين البيتين المرتبطين بنص يقدم فحواه روح الحياة التي يعيشها الشاعران.

وعند العودة إلى متن قصيدة شاعرنا، تطالعك الأسطر الأولى بقوله(42):

تظلين أنت الوحيدةْ

تظلين ... أغلى قصيدة

لأني كتبت حروفك بالدمْ

فكنت الحقيقة ...والوهمْ

وكنت ابتداء حياتي الجديدة.

فالخطاب الموجه إلى عمان يشي بانفصال ما، وهو بكاء من نوع خاص على تلك الأيام الخالية التي أعقبها قوله: (تظلين أنت الوحيدة) إذ يكشف الطرف الأخر غير المرئي في هذا المقطع عن كلام مسكوت عنه فحواه التشكيك في نفس الشاعر بأن ازدواجية ما تسربت إلى نفسه جعلته يرى معادلاً آخر لعمان، فيؤكد أنه ملتحم بها مادة وروحاً، بما تسمى به كلمة (الدم - وأغلى قصيدة). وتنمو القصيدة بروحها متكلفاً التعليل والتأكيد كما تكلفه المتنبي حيث ذكر لوحة للعاشقين، ولكنه تعليل على طريقة حيدر محمود، إذ يقول:

أنا..... قبل عينيك

كنت شراعا، مضاعاً

إلى آخر القصيدة.

ويؤكد ذلك الانفصال التام في المقطع الذي وضعه الشاعر تحت عنوان (هامش) بما تنطوي عليه هذه المفردة من دلالات تؤكد الانفصال مع شيء من التعالق، الانفصال بالعرف الاجتماعي السائد لكلمة (هامش) لا بالعرف الأكاديمي. فضلاً عن أنه كثف هذا الانفصال بنظمه على بحر شعري آخر هو (المتدارك) وكأنه أيضاً يكثف بدلالة موسيقة هذا البحر الذي لم يكن أصلاً من جسد العروض فاكتسب هذه الدلالة والحق بعلم العروض. ويكثف التمايز والانفصال مضمون هذا الهامش الشعري الذي يؤكد التمايز فهناك فارق اللون، والمسافة بعيدة بين الطرفين. ويزيد الأمر تكثيفاً لهذا المفهوم الفضاء البصري واللفظ اللغوي في هذا المقطع، ولننظر إلى ذلك، يقول:

بيننا.... فارق اللون، وجهي أنا مستعارٌ، ووجهك أنقى من البرتقال....

والمسافة، بيني وبينك قاتلة، والطريق طويل... وغصنكِ أكبر من أن يطال!!

فبعد كلمة بيننا نلحظ فضاءً بصرياً يؤكد سعة المسافة بين الطرفين وبعدهما عن بعضهما فالفراغ يؤكد هذه المسافة ويكثفها. ثم نجد على صعيد اللفظة، كلمة (فارق) ونجد على صعيد التركيب (والمسافة بيني وبينك قاتلة) ونجد (والطريق طويل) وهذا يؤكد الانفصال لا الاندغام بين الشاعر من جهة والمدينة المتغنى بها من جهة ثانية، فهو يتكلف التوحد كما يتكلف الشاعر العشق ويخلص منه إلى مبتغاه.

وبعد، فإن ما صنعه حيدر محمود لم يكن فريداً في مجال استخدام أكثر من بحر في القصيدة الواحدة، فقد كان بدر شاكر السياب وهو من رواد حركة الشعر الحر في قصيدة (جيكورامي) قد جمع بين بحر الخفيف والرمل والرجز على نحو ملفت للنظر، فقال(43):

تلك أمي وأنا أحبها كسيحاً

الخفيف

لائماً أزهارها والماء فيها والترابا

الرمل

ونافضاً بمقلتي أعشاشها والغابا

الرجز

ولن نقف عند المسوغات التي أشار إليها السياب للجوء إلى هذا البناء الموسيقي(44) ، وما نريده هنا هو أن أحد رواد الشعر الحر قد بنى بعض قصائده على أكثر من بحر وبأشكال مختلفة هذا نموذج منها، وربما كان هذا من المسوغات التي لاحت أمام شاعرنا ليسلك هذا الدرب مشاركة منه لرواد الشعر الحر في بناء قصائده.

وكان السياب ينتقل - كذلك - من بحر إلى بحر في القصيدة الواحدة، على نحو صنيع شاعرنا ويتجلى ذلك في قصيدة (بور سعيد) إذ خرج من البسيط إلى السريع، وهو بهذا الصنيع يحدث صدمة إيقاعية لا عهد للمزاج السائد بها، ولا عهد للقصيدة العربية التقليدية بها، ونحس بالمقابل أن حيدر محمود يعيش في مثل هذا السلوك على ما غنمته القصيدة الحرة في هجومها الأول في اتجاه الحداثة الموسيقية، فهو يراوح في هذا السلوك عند منجزات قصيدة الرواد ويقف عند الفجوات التي فتحها هؤلاء الشعراء وفي مقدمتهم بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم.

Pages