كتاب " الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل " ، تأليف د. محمد المصطفى عزام ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
You are here
قراءة كتاب الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
2 – الملاحظة على الممارسة الصوفية
إن من يعمل النظر في المواقف الحديثة من هذه الممارسة، يجد أن أغلب هذه المواقف تنسب التصوف إلى الماضي، بدعوى أنه استنفد إمكاناته كلها، وأنه لم يعد قادراً على أن يدفع عن المجتمع الإسلامي آفاته ولا عن المجتمع العالي انحرافاته.
أ- دعوى عجز التصوف عن إفادة المجتمع الإسلامي الحديث
مرد هذه الدعوى إلى هيمنة التوجه التسييسي على الخطابات الفكرية في هذا المجتمع، مع أن الأصل في الحقيقة الإسلامية هو التوجه الأخلاقي، ولا يعيننا كيف وقع نسيان هذا التوجه الأصيل في الإسلام ولا كيف وقع استنقاص شأنه باستحواذ التسييس عليه، وإنما تكفينا الإشارة إلى أن هذا النسيان أثر سلباً في هذه الخطابات الفكرية في المجتمع الإسلامي، فجعلها تقع في النسيج على منوال الخطابات غير الإسلامية، فتبدو بين يديها مهلهلة لا تقوى على مضاهاتها ومضطربة لا تقدر على مواجهتها، لأن التسييس المادي أصيل في الخطابات غير الإسلامية لعلمانيتها وفكرانيتها، بينما هو دخيل على الخطابات الإسلامية لشرعانية الدين الإسلامي وروحانيته، والحق أنه لا يليق بهذه الخطابات الإسلامية إلا التأنيس الأخلاقي، ولو أن هذه الخطابات عملت على تطوير هذا الجانب بإنشاء فلسفة أخلاقية شاملة تبرز الأسباب المعنوية للظواهر المجتمعية التي لم تبرزها إلى الآن إلا الأسباب المادية، فلسفة إنسانية متكاملة تــُشحذ لها الهمم وتــُسخر لها الطاقات، لأتت بصنيع لايستغنى عنه، فضلاً عن أنها تفتح لأهلها طريقاً لتوحيد رؤاهم وتجميع شتاتهم.
ب- دعوى عجز التصوف عن إفادة المجتمع العالمي الحديث
مردها إلى هيمنة التوجه التشييئي على الإنتاجات الصناعية والتقنية في هذا المجتمع، مع أن الأصل في فلسفة هذا المجتمع هو التوجه التأنيسي، ولا أدل على هذه الهيمنة من أن مدلول التأنيس انقلب في هذا المجتمع الكوني إلى نقيضه، فصار يدل في النزعات الإنسانية الغربية على إخلاد الإنسان إلى الأرض والاطمثنان إلى الحياة المادية الصرف؛ وإذا نحن تبينا كيف أن هذه الهيمنة التشييئية بلغت من الرسوخ درجة صارت معها قوانين العقلانية تنعطف بأشد الضرر حيث يظن آتية بأجل النفع، أدركنا كيف أن هذا الرسوخ التشييئي الأقصى الذي أصاب المجتمع العالمي لا تقدر على استئصاله إلا تجربة تأنيسية تبلغ في القوة مبلغه، ولا تجربة أقوى رسوخاً من التجربة الروحية التي يأتي بها التصوف، فتكون هي وحدها القادرة على محو التشييء الذي أحاط بإنسان هذا المجتمع الكوني من كل جانب، فجعله صلب الطبع قاسي القلب؛ أما ما سواها من التجارب الوجدانية التي تتخذ هذا اللون أو ذاك من ألوان الرفض والمخاصمة، فليس لها من القوة ما تغالب به قوة هذا التشييء، فضلاً عن أنها قد تأخذ بأسبابه من حيث لاتدري لخلوها من المدد الروحي، أو تستبدل بهذا التشييء، الذي هو ثمرة العقلانية المجردة، تشييئاً هو ثمرة ما دون هذه العقلانية، ولا غرابة إذ ذاك أن نجد بعض اليقظين من المفكرين المعاصرين يذكّرون العالم بهذه التجربة الإنسانية الأصيلة وبأبطالها، ويدعونه إلى العودة إلى استثمارها في مواجهة أخطار هذا التشييء الجارف.
وإذا ظهر أن الاستدلال على ماضوية التصوف يستند إلى دعوى عدم إفادته للمجتمع الإسلامي الحديث وعلى دعوى عدم إفادته للمجتمع العالمي المعاصر، فإن الأستاذ محمد المصطفى عزام يعمل على إبطال هاتين الدعويين.
ـ أما بصدد الدعوى الأولى، فيبين لنا كيف أننا نحتاج إلى العمل الصوفي لجمع شتات المجتمع الإسلامي، فقد قام بالبحث عن أصول التصوف الإسلامي فيما قبل اتساع الشقة بين الفرق والمذاهب الإسلامية، وذلك باستخراج أصول التأويل القرآني في العصر النبوي وعند الصحابة والتابعين، ذلك التاويل الذي اتسم بتمام الجمع بين العلم والعمل، مبرزاً أبلغ إبراز جانب السمو الخلقي، الذي تجلى في نماذج السلف الصالح، فتبين من خلال تحليلات هذا الباحث الدقيقة لتلك الإشارات الأخلاقية واللطائف النورانية، إرادته بل إصراره على أن يدلنا على الطريق لجمع شمل المسلمين، ألا وهو الرجوع بالخطاب الفكري الإسلامي إلى أصوله الأخلاقية التي ابتدأت مبكراً في الممارسة الإسلامية. فإذا كنا إذن نريد أن نجمع شمل الأمة الإسلامية، فلن يتأتى لنا ذلك بلغة التسيّس لأن الفرقة موروثة عنها، وإنما بلغة التخلق لأنها تخلو من اسباب هذه الفرقة، بل تلغيها.
ـ وأما بصدد الدعوى الثانية، فإن المؤلف يبين لنا كيف أننا نحتاج إلى العمل الصوفي لإخراج العالم من شيئيته، وذلك بأن ننظر إليه لا بوصفه يحتوي أشياء مملوكة نتعامل معها لقضاء مآرب مخصوصة، وإنما بوصفه مجموعة كلمات إلهية أو مجموعة آيات أي علامات دالة، كل علامة تحمل معنى من معاني الألوهية، فإذا خرج العالم عن أن يكون مجرد وسائل لتلبية الحاجات وإشباع الرغبات، وأصبح حاملاً لمقاصد إلهية توجب علينا طلبها والعمل بها، فإن الناظر في أحواله وتقلباته يعتبر بهذه المقاصد، فيقوم إلى استثمارها في توجيه تطوراته، ولا يقف المؤلف عند حد جعل العالم كلمات إلهية، بل يجعل هذه الكلمات بمثابة الكلمات القرآنية، فالعالم والقرآن كلاهما كلمات الله التي لا تنفد، وإذا تساويا في نسبتهما إلى الإله، فقد وجب للعالم من الاعتبار ما يجب للقرآن. ومتى وجب ذلك فقد وجدنا الطريق للخروج من الفساد التشييئي الذي أدت إليه النزعة التقنوية التي سادت العالم.
وبإيجاز، فإن الأستاذ محمد المصطفى عزام وضح فائدة التصوف في جمع شتات الأمة الإسلامية وذلك بتجديد الصلة بالأخلاق الأصلية التي انبنى عليها الإسلام، كما وضع فائدته في رفع التشييء الذي لحق العالم وذلك بتجديد الصلة بالمعاني الإلهية التي أودعها الله في مخلوقاته، فجاءت مقاربته للخطاب الصوفي مبطلة تمام الإبطال لدعوى ماضوية التجربة الصوفية ومثبتة على العكس من ذلك لدعوى "حاضرية" هذه التجربة أو قل بلغة العصر دعوى "آنيتها" أو بلغة الصوفية، دعوى "وقتية" التصوف.