You are here

قراءة كتاب الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

كتاب " الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل " ، تأليف د. محمد المصطفى عزام ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

3- الملاحظة على المصطلح الصوفي

إن من ينظر في هذه المصطلح، يجد أن أهل الدرس الاصطلاحي لم يتبنوا قط الخصوصية الإنتاجية التي يتميز بها هذا المصطلح والتي تتجلى في أمرين أساسين هما "قوةالتأثير" و"وقوة التوليد".

أ- قوة التأثير

لا يخفى أن المصطلح الصوفي تمتد جذوره إلى أخص ما في الإنسان، وهو نفسه التي بين جنبيه، فيكون أوفى بغرض تلوناتها التعبيرية وتقلباتها التبليغية، من غيره من المصطلحات التي لا تتعلق بهذا المستوى الباطني من الشعور الإنساني، كالمصطلحات الكلامية والمصطلحات الفلسفية التي تخاطب العقل المجرد ولا تخاطب الوجدان الحي، كما يكون المصطلح الصوفي أقدر على إنهاض الهمم وشحذ القرائح وتشغيل القلوب من غيره من المصطلحات التي وإن تعلقت بالشعور الإنساني فإنها لا تبلغ مبلغ ذلك المصطلح في النفاذ فيه كالمصطلحات الأدبية والمصطلحات الفنية- التي تخاطب الوجدان الظاهر الذي هو دون العقل المجرد، ولا ترقى إلى مخاطبة الوجدان الخفي الذي هو فوق هذا العقل- والحق أنه لا يقدر على تحريك الإرادة نحو مزيد من الإنتاجية ولا على توجيه العزائم نحو مزيد من الإنسانية إلا ما كان يجاوز خلجات الأجساد وخفقات الأحشاء. ولو أن أهل الاصطلاح تبينوا حقيقة القوة التاثيرية التي يتوفر عليها المصطلح الصوفي بموجب تعلقه بأصول الوجدان لا بفروعه، وعملوا على نقل أسبابها النافذة في أعماق النفس البشرية على غيره من المصطلحات، لدفعوا عن بعضها التجريد الموغل الذي يبعث على الجمود والتقليد، وعن بعضها الآخر الضحالة الفجة التي تفضي إلى الانتحال والزيف.

ب- قوة التوليد

لا يخفى كذلك أن المصطلح الصوفي يستثمر الإمكاناًت الصوفية بوجه لا يضاهيه فيه غيره، بالغاً في استعمال آلية المقابلة، إن في المضمون أو الصورة، مبلغاً لا يوازيه فيه مصطلح غيره، حتى إن النظام الاصطلاحي الصوفي يتفرد بشدة التناسق بين عناصره وبقوة التعالق بينها، بحيث تنتظم هذه العناصر الاصطلاحية فيما بينها مثنى أو ثلاث أو رباع، انتظاماً يدل على اختلاف في مراتب المسمى الواحد أو على اختلاف في انواع مسميات الحقل الواحد.

ولما كانت القوة الاشتقاقية التي يتمتع بها المصطلح الصوفي لا تعدلها قوة مصطلح آخر، فقد حصّل أكبر قدر من القوة المنطقية الطبيعية التي تختص بها اللغة العربية، علما بأن الجهاز الاشتقاقي لكل لغة يتضمن جملة المعاني والعلاقات الأصلية التي تميز هذه اللغة، فيكون المصطلح الصوفي أكثر استثماراً لهذه المعاني والعلاقات من غيره، مما يجعله أدل على الخصوصية المنطقية للغة العربية كما يجعله أقدر على التأثير في مختلف طبقات جمهورها.

ولو أن أهل الفكر العربي سلكوا في وضع مصطلحاتهم وتوظيفها الطرق الطبيعية التي سلكها أهل التصوف، لجاءوا في الفكر بوجوه لم يسبقوا إليها، واستقلوا برؤى لم يتكلفوا فيها، ولوجدوا في الجمهور خير من يتقبل افكارهم ويعتنق رؤاهم، لما ذكرناه من صلة هذه الطرق الصوفية في الاصطلاح بالبنيات المنطقية الطبيعية التي يتداولها هذا الجمهور.

لكن هؤلاء المفكرين أبوا إلا أن يبتغوا في اشتقاق مصطلحاتهم طرقاً عشوائية أو طرقاً منقولة، إما جهلاً بالقيمة المنطقية للطرق الاصطلاحية أو نبذاً لكل تشبه بأهل التصوف لسبب أو لآخر فجاءت أفكارهم منتحلة لأفكار غيرهم إن لم تكن مشوهة لها، كما بدت هذه الأفكار مستغلقة على جمهورهم، إن لم تكن مستكرهة لديه.

وإذا ظهر أن أهل الإصطلاح قد فاتهم إدراك الخصوصية الإنتاجية للمصطلح الصوفي التي تتجلى في قوة التأثير وقوة التوليد، فإن الأستاذ محمد المصطفى عزام يخصص أكبر قسط من كتابه لبيان هذا التميز الإنتاجي للمصطلح الصوفي.

أما عن قوة تأثير هذا المصطلح، فهو يوضح لنا كيف أن الصوفي يستثمر القوة التداولية لألفاظه ثم يرتقي بهذه الألفاظ تدريجياً في معارج الدلالة حتى تبلغ النهاية في اللطافة والدقة، معتمداً في ذلك على القوة المعنوية لتجربته الروحية وفضلاً عن هذا الجمع بين الأصول التداولية والمعاني التجربية، يقوم الصوفي باستثمار القوة العملية للأمثال والحكم، جامعا بينها وبين القوة المقصدية للإشارات، فيتمكن بموجب هذا الجمع المزدوج: الجمع بين التداول المشترك والتجربة الخاصة والجمع بين العمل الاقتدائي والمقصد الإشاري، من تزويد مصطلحاته بقوة في التأثير لا يصل إليها المصطلح الفلسفي ولا المصطلح الكلامي.

وأما عن قوة توليد المصطلح الصوفي، فيوضح لنا المؤلف الآليات المختلفة التي يتوسل بها الصوفي لإنشاء معانيه مثل اللجوء إلى المعنى اللغوي ونقل المدلول الحسي إلى المدلول المعنوي والعكس بالعكس، وقلب صيغ الجمل وإضافة اللفظ إلى نفسه ونقله إلى نقيض معناه وتقطيع الحروف وترتيب المعاني والمقابلة بينها، كما يبين لنا المستويات الخطابية التي يندرج فيها هذا المصطلح، فهناك المستوى العباري والمستوى غير العباري، وهناك في المستوى غير العباري مراتب منها الإشارات والرموز واللطائف والحقائق، ثم يوضح لنا كيف أن الصوفي لا يكتفي بالمصطلحات التي ينشئها ابتداء، بل يستمد مصطلحات قطاعات معرفية أخرى فيحملها على وجوه غير وجوهها في هذه القطاعات، وقد يصير إلى أبعد من ذلك، فيلبس مصطلحات العلوم الأخرى في مواضعها من هذه العلوم لباس الإشارات إلى معان روحية لا تخطر على بال أصحاب هذه العلوم.

وبإيجاز، فإن محمد المصطفى عزام يثبت لنا نموذجية الاصطلاح الصوفي، هذه النموذجية التي تتجلى في قوة التأثير التي يتمتع بها، وذلك بفضل استناده إلى التداول المشترك وإلى العمل الراسخ كما تتجلى في قوة التوليد التي تميزه، وذلك بفضل استعماله لمختلف آليات تقليب الصيغ وآليات تنويع المضامين.

طه عبد الرحمن

الرباط في: فاتح جمادي الثانية 1420

موافق 12شتنبر 1999

Pages