كتاب " الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل " ، تأليف د. محمد المصطفى عزام ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
You are here
قراءة كتاب الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
لذلك فإن الصوفية المسلمين يضعون أنفسهم داخل رؤيتهم الوجودية الخاصة، فيغدو لعالم الغيب حضور واقعي دائم في شعورهم، بحيث إن تعاملهم معه في كل مدارج سلوكهم مزامن لتعاملهم مع عالم الشهادة باعتبارهما وجهين يدلان على حقيقة واحدة مناظرة لحقائق الانسان، وما على الصوفي إلا أن يفك رموز الظاهر للوصول إلى الباطن متوسلاً بالتجربة الروحية المترواحة بين ظاهر الصوفي وباطنه؛ فالأكوان الظاهرة (عالم الشهادة) عنده علامات تشير إلى حقائق باطنة فيها (أو فيه)، وعليه أن يعمل على تطهير باطنه عبر تجربة شعورية تمكنه من أن يتلقى معاني تلك الإشارات ويفهمها ويؤولها، سواء صرح بهذا التأويل أم لم يصرح ؛ وكلما استغرق عالم الغيب شعور الصوفي ضعفت قيمة عالم الشهادة عنده وتأثيره فيه، إلى أن يندرج هذا العالم في عالم معنوي واحد، ذلك أن روح الصوفي العارف تغــّيب هذا العالم وتتغرب عنه إذ تتحقق بالحضور الإلهي الذي يصير كل موجود مستمداً وجوده من هذا الحضور، فلا يبقى للعالم من وجود أو معنى إلا مايكون به إشارة إلى الموحد أو ما يتعلق بمراحل السلوك الأخلاقي للمتصوف القاصد إلى كمال العرفان.
ولما كان مقصد الصوفي أن يصل إلى معرفة خالق الأكوان، وكانت هذه الأكوان المحسوسة (عالم الملك) شاغلة لقواه الإدراكية في البداية، فإن على الصوفي أن يحد من ذلك الاشتغال وأن يشحذ القوى الداخلية (البعد الروحي) بتوجيهها إلى مكّون الأكوان عن طريق الأعمال التعبدية حتى تنقدح في باطنه الأنوار التي بها يدرك حقائق المكونــّات، وهذه الرحلة من الكون إلى المكون، وهي رحلة معنوية يقوم بها الصوفي عبر ذاته، تتطلب مقاساة أعمال تخلص ظاهره من العادات، ومعاناة أحوال ([37]) تجرد باطنه من التعلقات، فعلى الصوفي أثناء هذه الرحلة أن ينظر في "المكونات" وهو يستند قول الله تعالى:﴿ انظروا ماذا في السموات والأرض﴾ (يونس 151) ولم يقل: انظروا السموات والأرض ([38]) ؛ ولما كانت آيات من القرآن متعددة تأمر بالسير في الأرض والنظر في المبادئ والعواقب ([39])، فإن الصوفية اجتهدوا في أن تعتبر قلوبهم بباطن الأكوان، وأن لا تغتر نفوسهم بظواهرها ([40]) ؛ولايتم للصوفي السير في هذا الاتجاه إلا بالعناية الإلهية التي تعينه على الحد من التعلقات النفسية، والإقبال بإخلاص الكلية على البارئ تعالى في جميع الأوقات دون توقف ولا فتور في الهمة أو توزع في التوجه، حتى تتم له المناسبة بين بعده الروحي وبين الغيب الإلهي، الذي هو «حضرة القدس وينبوع الوجود» ([41])،فتنعكس على صفحة ذلك البعد أنواع العلوم والمعارف التي تتنوع وتختلف باختلاف تجليات الأسماء على الموجودات.
وحينما يحصل للصوفي شهود المكون في نهاية سفره، لا يبقى له شأن مع الأكوان الحسية ولا المعنوية أيضاً،« فلربما وقفت القلوب مع الأنوار [الملكوتية] كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار» (المُلكية)، بل تغدو الأكوان عنده ظلمة لا ينيرها إلا ظهور الحق فيها بحيث لا يراها إلا به وبعده، بعد أن كان يراها قبله حين كان يعوزه وجود الأنوار،إذ كان يستدل على المؤثر بالآثار مثل عامة النظار ([42])، ولكن بعد حصول العرفان ينعكس الاستدلال المعروف بالمخلوق على الخالق فيصبح الخالق هو الدليل على كل ماسواه عند العارف الذي يتساءل عند الوجد بعد الفقد: «متى غاب حتى يُستدل عليه؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟». إن الاستدلال بالمخلوق على الخالق عند الصوفي لا يوصل إلى المعرفة الحق، إنه استدلال لا يدل إلا على عدم الوصول إلى العلم بالله يقيناً؛ فكيف يدل عليه شيء وهو الذي أظهر كل دليل؟ بل إن الأكوان لا تثبت إلا بإثباته، وهي مضمحلة بظهور صفاته، كما هي ممحوة بأحدية ذاته، فر غرو أن يصيح العارف بالله منتشياً من فيض وجوده، «شتان بين من يستدل به وبين من يستدل عليه» ([43]).
وبعد أن يثبت الصوفي الأكوان بالمكون، لا يبقى له إلا أن ينظر في أحكامه فيها وحكمه، ويؤدي حقوق الخالق عليه فيها، ويتأدب بأوصافه تعالى وأفعاله مع المخلوقات لعلمه أن علم تلك الأوصاف والأفعال وهب إلهي يلزمه الشكر عليه للاستزاده منه، وهي عملية جدلية تصحب الصوفي إلى منتهى أمره.
ولم يكن قصد الصوفية من سلوكهم معرفة حقائق الأكوان وأسرارها، ولكن مجاهداتهم كانت دوماً من أجل الحصول على رضا الله والاطمئنان إليه، وقد علموا أن ذلك لايتم إلا بمزيد التقرب إليه، وأثناء هذا التقرب يجدون مزيد يقين، فيزيدهم معرفة يزدادون بها مجاهدة وتأدباً. وأثناء السير تهب على قلوبهم معارف تتعلق أحياناً بظاهر الأكوان (عالم الملك) وأحياناً بباطنها (عالم الملكوت)، وقد ضمنها بعضهم كتبه أو خصها بتأليف مستقل، بحيث إننا نجد في بعضها وصفاً دقيقاً للعوالم التي هي خارج المجموعة الشمسية ولأصل هذه المجموعة، (بما يتفق مع نظرية الكتلة الواحدة)، وبدء تكوين أجرامها ومخلوقاتها وموقع الأرض منها وقوانينها الطبيعية من حركة وكسوف وخسوف وأمطار، إلى غير ذلك من المشاهدات التي يُستشهد لها أحياناً بنصوص النقل من قرآن وأثر، وأحياناً أخرى بأدلة العقل والخيال والاحتمال والجدل، وقد يرفق ذلك برسوم لأشكال الموجودات الكونية ومكوناتها[(1)] ؛ ومما يستغرب له أن كثيراً من المعلومات والمصوّرات تضارع ما اكتشفه العلم الحديث مؤخراً.
غير أن الصوفية في معراجهم الروحي اعتبروا أن انكشاف هذه المعلومات الكونية، الظاهرة منها والباطنة، من قبيل المواهب والأفضال الإلهية للتثبيت والتشجيع على المسير، وأنها غير مقصودة لذاتها، وقد تكون في ذات الوقت اختباراً للسالك ومزلقاً من مزالق الطريق حينما يعتد بها ويقف عندها معتقداً أنها المرحلة النهائية المقصودة، فتنقلب فتنة قاطعة عن السلوك، ويعبر ابن عطاء الله عن ذلك بقوله: «ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار» ([2])، وقد يصلح لتصوير خطر هذه المفاوز على المتصوف ما وقع للشيخ أحمد بن عليوة مثلاً مع الواردات الكونية التي كانت تهجم على قلبه وتلاحق أفكاره، إذ تخوف منها وأخذ يحاول إبعادها وعدم الاعتماد على مقتضاها، وعندما استحكمت من فؤاده علم أنه مقصرواعتقد أنه أصبح أسير تلك المعارف، فشكا الأمر أخيراً إلى شيخه الذي أشار عليه بأن يكتبها ليتخلص منها ([3]). لذلك نجد الصوفية يحذرون المريدين من التوقف في تلك المراحل مذكرين بقول الله:﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ (النجم 42)،كما يحذرون من الاكتفاء بمثل تلك الكرامات والاغترار بها « فربما رزق الكرامة من لم تكمل له الاستقامة» كما قال الإسكندري ([44])، فالاستقامة عندهم خير من ألف كرامة، كما أن التشوف إلى العيوب النفسية خير من التطلع إلى الغيوب الكونية، كما أشرنا سابقاً.