You are here

قراءة كتاب الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

كتاب " الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل " ، تأليف د. محمد المصطفى عزام ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

2- التــبـــيّـــــنأو التجربة الصوفية
1.2- التبيّن الصوفي للعالم

لقد كان استشفاف ما وراء العالم المادي من النوازع الملازمة للتصوف، بل هي مصاحبة للتفكير الإنساني عامة، لكن الصوفي أكثر من غيره تطمح روحه إلى اختراق هذا العالم باعتباره ظلمة كثيفة تحجب البصائر عن درك الحقائق، هذه البصائر التي جُعلت في الإنسان قوة بإمكانها أن تتجاوز عالم الملك الذي هو مجال القوى الحاسة فقط، لتدرك ما وراء هذا العالم من غيوب، ولو أن تشوف الصوفية إلى العيوب النفسية (الباطنية) خير عندهم من التطلع إلى الغيوب الكونية ([28]).

وقد تقدم لنا أن بيان الإنسان يتحقق عن طريق وظيفتين أساسيتين تستندان إلى أهم قوتين من قواه الطبيعية، وهما وظيفة التبيّن ووظيفة التبيان، ولما كان الإنسان في اعتبار الصوفية ظاهرة مناظرة لظاهرتي العالم والقرآن، فإن وظيفة التبين الإنساني لابد أن تشتغل بما يناسب تلقيها من الظاهرتين المناظرتين له، وللصوفية في تبين هاتين الظاهرتين مسلك خاص سنحاول توضيحه.

إن جمع الإنسان للأبعاد الذاتية الثلاثة، (البعد النفسي والبعد القلبي والبعد الروحي) من جهة، ومناسبة تلك الأبعاد للمراتب الوجودية الثلاث (عالم الملك وعالم الملكوت وعالم الجبروت) من جهة ثانية لم يكن في رؤية الصوفية إلا بهدف تحقيق الغاية من الخلق، وذلك بجعل معرفة الإنسان تلك العوالم أمراً ممكن الحصول عن طريق الوسائط السببية المناسبة لمسبباتها، فتحقق الإنسان بمعرفة كل مرتبة وجودية يحصل في لحظة تحققه الذاتي بالبعد المناسب لتلك المرتبة، بل إنه تحقق معرفي واحد ينطلق من الذات ويعود إليها، فبتحقق الإنسان ببعده النفسي يتم إدراكه لعالم الملك، لأن الإنسان نسخة مصغرة لهذا العالم، وبتحققه ببعده القلبي يعقل عالم الملكوت لأن الإنسان برنامج العالم الجامع لفوائده، كما أنه بتحققه بالبعد الإلهي المتجلي في الوجودات كلها ([29]) قد يتاح له شهود عالم الجبروت، بمعنى أن تلك الأبعاد الذاتية للإنسان ليست أدوات مستقلة عن العالم الموضوعي أو ينحصر دورها في أنها وسائل لعمليات الإدراك الخارجي، ولكن معرفة تلك العوالم والوجودات مطوية في فطرة الإنسان بكيفية مسبقة بفضل التعليم الإلهي لآدم عليه السلام، وبذلك صار مجمع حقائق الأسماء التي قامت بها جميع العوالم، ولولا ذلك ما أمكن للإنسان أن يدرك شيئاً ولا أن يعرفه([30]).

فمعرفة الإنسان إذن ليست ناتجة فقط عن التناسب الحاصل بين أبعاده الذاتية ومراتب الوجود تناسباً يتولد عنه استعداد للمعرفة بعد الجهل، ولكن تلك المعرفة كامنة في تكوينه أصلا، ثم إنه في حياته على الأرض يستحضرها ([31]) بواسطة أسباب غالباً ما تكون ظاهرة التسلسل الحسي أو الذهني (مع غموض عمليات الإدراك والتعلم) فحقيقة المعرفة (التبّين) الإنسانية، في رؤية الصوفية، هي إعداد إلهي يتمثل في الهداية والتوفيق لما كان مقدوراً لذلك الإنسان أن يعرفه في حياته، وناتجة في ظاهر الأمر عن الأسباب التي يركبها. وقد انطلق الصوفية في هذا الفهم من الآيات القرآنية التي تفيد بأن الله هو مصدر العلم الإنساني مثل قوله تعالى:﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (البقرة 30) و﴿وخلق الانسان علمه البيان﴾ (الرحمن 2) و﴿وعلم الانسان ما لم يعلم﴾ (العلق 5) وغيرها ([32])، وهو تصور لايختلف فيه علماء الإسلام، وأهل السنة منهم خصوصاً؛ ولئن اختلف بعض المفسرين في المقصود من "الأسماء" في الآية السالفة، فجميعهم متفق على أن أصل كل علم هو الله، وأن وظيفة الإنسان أن يكسبه كأي شيء مخلوق، بل إن الإيمان والهدى والمعرفة عطاء من الله وإشهاد لبني آدم على أنفسهم قبل وجودهم على الأرض ([33])، وما دور الرسل إلا التذكير بتلك المعرفة المبثوثة في فطرة الإنسان﴿فذكر إنما أنت مذكر ﴾ (الغاشية 21).

وعندما اعتمد الصوفية تقسيم الوجود إلى ثلاث مراتب: وهي الملك، والملكوت والجبروت (أو الحقائق الإلهية التي لم تدخل عالم التكوين)، فإنهم لم يقصدوا بهذا التقسيم إلى أن هناك ثلاثة أنواع متمايزة من الموجودات، ولكنهم اعتبروا أن محل تلك الموجودات واحد وأن التراتب فيها ليس إلا من حيث أصلية المرتبة أو فرعيتها، فالأمر عندهم اعتباري، تختلف التسمية باختلاف الرؤية كما تختلف الرؤية باختلاف الترقي في المعرفة؛ فالعالم الداخل في التكوين عالم ملك ظاهر بالنسبة لمن بقي مفرقاً فيه بين الموجودات، منحجباً بها عن موجدها، وهذا العالم نفسه عالم ملكوت باطن بالنسبة لمن بلغ "مقام الجمع" فيه وشهد النور الفائض من الجبروت، ولكن من غير أن يضمه إلى أن أصله، أما من تحقق بأصل النور، فلا يبقى العالم في حقه إلا تجلياً لأنوار الجبروت ([34]). فالموضوع واحد ولكن طبقاته متعددة، ويتفاوت إدراك تلك الطبقات بتفاوت قوة المدركين، كما تتفاوت أبصار العيون في تبين شيء بعيد خلف ستر رقيق، بل إن أنوار عالم الملكوت ليست إلا أنوار القلوب المشاهدة لها، كما أن عالم الجبروت ليس غير انوار الأرواح الحاضرة فيها؛ فما سوى الحق، عند العارفين، خيال وهمي لاحقيقة لوجوده في العالم الخارجي ([35])، بمعنى أن الصوفي الواصل يعرف حقائق هذه العوالم من خلال معرفته بذاته، حينما تفيض الأنوار الإلهية من روحه على قلبه، باعتبار أن الإنسان مجلى ومجمع تلك الحقائق في سابق علم الله بالإنسان وتعليمه إياه بعد إيجاده، كما تقدم القول([36]).

Pages