كتاب " الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل " ، تأليف د. محمد المصطفى عزام ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
You are here
قراءة كتاب الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
وقد أخطأ الصواب كثير من الدارسين، في نظرنا، حينما قسم بعضهم التصوف تاريخياً إلى زهد ثم تصوف عملي ثم تصوف فلسفي، أو صنف بعضهم الآخر القوم إلى صوفية سنيين وصوفية فلسفيين، أو جعل بعضهم التصوف أنواعاً بالاعتماد على المواضيع المختلفة التي كتب فيها الصوفية، أو على الألفاظ التي استعملوها وهي تنتمي إلى الحقل الفلسفي أو غيره؛ مع أن "المشترك الاصطلاحي" بين حقول المعارف واقع معلوم عند العلماء، كما للمشترك اللفظي في اللغة الطبيعية تماماً؛ والمنظومة المفهومية في كل حقل معرفي هي بمثابة السياق الموضوعي الذي يحدد معنى كل مصطلح مستعمل داخلها، ولا يبقى لهذا المصطلح من الحمولات العرفية العامة أو الخاصة (المستمدة من حقل آخر) إلا ما أراده واضع المصطلح لخدمة المعنى الاصطلاحي الجديد، وشتان بين المصطلح الصوفي الذي هو مجرد وسيلة لتقريب المعنى الروحي وبين المصطلح الفلسفي الذي هو عين الفكرة (أو الصورة الذهنية) المقصودة.
ولما كانت أصول المصطلح الصوفي واحدة وهي نصوص القرآن والحديث أو تأويل هذه النصوص خاصة، وكانت التجربة القائمة على تلك النصوص والمتجددة بتأويلها واحدة، فإننا لاحظنا توحداً كبيراً بين الصوفية عبر كل العصور والأقطار الإسلامية في نوع المصطلحات المستعملة وعموم معانيها لا يختلفون إلا في مستويات تلك المصطلحات، إذ إن معنى المصطلح السلوكي يتفاوت بتفاوت مقامات السالكين، فيعبر كل منهم عن المستوى الذي عاشه من معاني المصطلح النسبية، ونجد أن هذا التفاوت هو نفسه في كل عصر وعند كل الصوفية بحيث لانستطيع أن نرسم خطاً بيانياً لتطور السلوك الصوفي أو خطابه، ذلك أن التصوف اجتهاد فردي متنوع داخل وحدة عرفانية تبدو كأنها لا زمانية، (وقد يكون اجتهاداً جماعياً لتحقيق آداب معينة). فإذا قارنا بين مصطلحات التصوف في القرن الثالث أو الرابع (عند ذي النون أو الجنيد أو الشبلي أو السراج مثلاً) في الشرق الإسلامي ومصطلحاته في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر (مثلاً عند ابن عجيبة أو ماء العينين) في الغرب الإسلامي، فإننا نجد تناقلاً للمصطلحات نفسها مع اختلاف غير قليل في تعريفها، لكن التعريفات المختلفة تجتمع في تكامل وانسجام لشرح المصطلح مستعلية على كل الظروف، وهذا ما يبطل معايير التطور الزمانية و المكانية في دراسة الظواهر الثقافية/ الروحية، وربما كان تفسير ذلك أن التصوف ظاهرة روحية "ما بعد ثقافية" لا تخضع لمعايير الثقافة السائدة أو المتوقعة.
ولا شك أن هذا التوحد الاصطلاحي عند الصوفية راجع إلى وحدة الموضوع والمنهج في الطريق الصوفي، فموضوع التصوف هو "الذات العلية" وأكبر ظهور لها في الكلام الإلهي الذي به يسعى الصوفية إلى الهدف الأسمى وهو المعرفة الإلهية، ومنهجهم في ذلك التجربة الروحية المؤسسة على الكلام الإلهي نفسه، تطبيقاً وتأويلاً، في عملية جدلية مستمرة، وهذا ما يضعنا أمام معادلة طرفها الأيمن تطبيق القرآن وتأويله وطرفها الأيسر الخطاب الصوفي:
تطبيق القرآن (تأوّل/تبيّن)+ تأويل/تبيان= المصطلح /الخطاب الصوفي من هنا كان علينا في هذا العمل أن نتحقق من صحة هذه المعادلة موضوعياً وتاريخياً، نظرياً وتطبيقياً.
وقد استخدمنا في هذا البحث مفاهيم ثلاثة نعدها بمنزلة مفاتيح نظرية أو جهاز تحليلي لمضامينه، أولها مفهوم "البيان" ونقصد به أن القرآن والإنسان والعالم تشترك جميعاً في كونها مجموعة "آيات" بمعنى علامات دالة. وثانيها مفهوم "التبيّن" ونقصد به قدرة الإنسان على إدراك بل استيعاب دلالات هذه العلامات في القرآن والعالم وفي نفسه، أو قل هو القدرة على تحصيل البيان. أما ثالث المفاهيم فهو "التبيان" ونقصد به قدرة الإنسان على توصيل دلالات هذه العلامات بضروبها الثلاثة إلى الغير، أو قل هو القدرة على توصيل البيان، وقد اخترنا استعمال "التبيان" لكي نخصص مفهوم "التبيين" للهدي النبوي دون غيره، نظراً إلى كماله التبليغي وإلى شموله النموذجي لأوصاف "الإسوة الحسنة" وإلى أن التبيين هو المصدر الأشهر للفعل الذي يلخص الرسالة النبوية في قوله تعالى ﴿وأنزلناه إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ (النحل44)؛ (ومصدر التبيان ليس على الفعل عند سيبويه كما أنه بناء شاذ).
وقد جعلنا هذا الكتاب مكوناً من بابين، فخصصنا الباب الأول للتجربة والتأويل وقسمناه إلى فصلين، جعلنا الفصل الأول للكلام عن التجربة الصوفية الحية، وذلك من خلال ثلاثة مباحث هي مبحث البيان ومبحث التبين ومبحث التبيان، وجعلنا الفصل الثاني لتأصيل التأويل في الثقافة الإسلامية، وذلك في ثلاثة مباحث تناولنا الأول منها استعمالات التأويل في اللغة والقرآن والاصطلاح، وفي المبحث الثاني عرضنا لتأسيس التأويل الإسلامي من خلال التبيين النبوي وممارسة الصحابة للتجربة والتأويل، ثم نظرنا في المبحث الثالث إلى التأويل في الفكر الإسلامي، فعرضنا فيه لبعض الاشتغال التأويلي عند كل من المتكلمين والفلاسفة.
واما الباب الثاني فقد تناولنا فيه المصطلح الصوفي بالتأصيل والمقارنة مع غيره فقسمنا الباب إلى فصلين، خصصنا أولهما لقضايا المصطلح عموماً، وللمصطلح الصوفي وتأصيله خصوصاً، أما الفصل الثاني فعقدنا فيه بعض المقارنات بين مصطلحات من الفكر الإسلامي ونظيرها في المعجم الصوفي.
وبعد، فإننا لا ندعي لهذا العمل من الكمال ما ليس له، ولكننا لم نأل فيه جهداً ولا قصرنا في ما يستلزمه من تثبت، ولا ترددنا في تصحيح ما يقتضيه الحق والصواب، إن في المضامين أو البنية أو المنهج، وذلك على الرغم من أهوال طريق البحث العلمي في زماننا وعتو الرياح القاطعة عنه، لكن مايهون من تلك الأهوال والمشاق، ماقد يفتحه هذا العمل من آفاق، أو ما يساهم به في استكشاف مآثر من ثقافتنا المظلومة أو المنسية، وفي استرجاع ملامح من هويتنا المضيعة أو المسبية.
ومهما يكن، فإن صدق القصد كان لنا هادياً، فكانت الكتابة بعضاً من مكابدة التجربة، كما أن جميل الصبر كان لنا حادياً، فكانت أناة الرجاء وجهاً من حكم القضاء، ولئن استغرق إنجاز هذا العمل زمناً، فليس يمثل إلا مرحلة من تجربة حية تقدمته، وأرجو من الله تعالى أن تستمر إلى أن يأتي اليقين، وليس لي فيما تقدم أو تأخر، إلا فضل الله المنان الذي خلق ونسب إليّ.
وعليّ، لأشكر المولى عز وجل، أن أشكر أولاً بكليتي التي لن تفيَ بشكرٍ أستاذي وشيخي العارف بالله والدال عليه، مربي الرجال في مدارج الكمال، سيدي حمزة بن العباس القادري البودشيشي، أدام الله فضله وأطال عمره، وجزاه عنا بأفضل ما يجزي به عباده الصالحين المصلحين، فلولا صحبته والتلمذة عليه لم يكن لهذا العمل أن يوجد، كما أتوجه بالشكر الجزيل إلى أساتذتي الكرام، الأستاذ طه عبد الرحمن والأستاذ عباس الجراري والأستاذ أحمد العلوي، وإلى كل من تحمل معي شيئاً من أعباء هذا العمل، أو عاتبني أو حثني أو دعا لي.
محمد المصطفى عزام