You are here

قراءة كتاب الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل

كتاب " الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل " ، تأليف د. محمد المصطفى عزام ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

مقدمة الكتاب

يطرح عملنا هذا إشكالية خاصة هي "التأويل والاصطلاح" وذلك في جانب من الإنتاج الثقافي الإسلامي، وتحديداً هو جانب الخطاب الصوفي؛ وتتمثل هذه الإشكالية في التعارض بين عملية التأويل وعملية الاصطلاح، فالتأويل إبداع ذاتي متحرر، أما الاصطلاح فهو إجراء موضوعي متحدد، والتأويل ينطلق غالباً من نص معين، في حين أن الاصطلاح مكوََّن من مكونات النص. ويكاد يكون هذا التعارض قانوناً عاماً يجري على النص التأويلي والمصطلح التقني معاً، لكننا فيما يخص الخطاب الصوفي، نجد أنفسنا أمام تمازج كامل بين التأويل والاصطلاح، بحيث لايعارض أحدهما الآخر، ولايتميز عنه، تماماً كما يحدث في النص الإبداعي بين المضمون ولغته الخاصة.

وإذا كانت أغلب حقول الثقافة الإسلامية قد قامت حول القرآن الكريم ولخدمته، فأقامت أجهزتها المفهومية والاصطلاحية على لغته وما يفسر هذه اللغة من العرف العربي، وقامت تلك الحقول بتأويل القرآن أحياناً دون أي تعالق بين التأويل والمصطلح، فإن الخطاب الصوفي غلى العكس منها قد تولدت أغلب مصطلحاته من تأويل النص القرآني، هذا التأويل الذي هو عبارة عن تبيان للمقاصد الخُلقية للنص المؤول، أما الوسيط الذي عن طريقه يتحول هذا النص إلى مصطلحات صوفية فتجسده التجربة الصوفية، هذه التجربة بالذات هي التي تحول تلقي القرآن لدى الصوفي من مستوى في الفهم إلى مستوى آخر، فيتحول التأويل تبعاً لذلك من مستوى إلى آخر، باعتبار أن السلوك الصوفي ليس إلا تفاعلاً بين التجربة والقرآن ينتج مزيداً من الفهم عن الله في كلامه كلما تعمقت التجربة؛ فالقاعدة عندهم أنه «لا يفهم إشارات القرآن إلا من طهر سره عن الأكوان وما فيها».

إن القرآن الكريم في الرؤية الصوفية شامل لحقائق الإنسان وحقائق العالم، وعندما يتحقق الصوفي، عبر تجربته، باستكناه حقيقة ذاته، فإنه في الوقت نفسه يفهم كلمات القرآن وكلمات العالم، فتغدو مظاهر الكلمات جميعاً إشارات ورموزاً هي خطاب الحق إلى الإنسان الذي عليه أن يتبين معانيها ومقاصدها عن طريق اتباع أوامر الكتاب المنزل والتحلي بآدابه، وذلك في سبيل القرب من المتكلم الأسمى سبحانه، وهذه هي طريق العرفان الصوفي الذي هو حضور كلي ومتجدد داخل الشبكة الإشارية لكلمات الله في قرآنه وفي أكوانه.

لقد اهتم الصوفية بإشارات القرآن ورموزه (أو باطنه) من أجل استشفاف مقاصده، فضلاً عن الدلالات الظاهرة لعباراته، مستندين إلى ما ورد في الأثر من أن للقرآن ظاهراً وباطناً؛ ولما كان التأويل هو ترجيح أحد الاحتمالات الزائدة على المعنى الظاهر، فإن المرجًّح عندهم إنما هو التطبيق العملي للآيات بعد تدبرها، ثم تدبرها بعد تطبيقها؛ وقد لاحظنا ظهور هذا النوع من التأويل الخلقي منذ عهد الصحابة، مع أنهم كانوا أميل إلى التطبيق العملي لمقاصد الكتاب الخلقية منهم إلى التصريح بمعانيها؛ ثم إن التأويل الإشاري سار إلى جانب التفسير العباري عند التابعين ثم تابعيهم، لا يفرق بينهما إلا شُعب الآراء المتطرفة في هذا الاتجاه أو ذاك.

وتنامت اللغة الصوفية وأخذت تتميز بمصطلحاتها التي اكتملت تقريباً قبل القرن الرابع الهجري، حين جمع أكثرها السراج الطوسي في لمعه، بعد أن كانت متفرقة بين أقوال القوم ومروياتهم، وإن حاول أبو سعيد الخراز (ت. 277 هـ أو 279 هـ) جمع بعض المصطلحات في كتابه: الحقائق. وقد دل الاستقراء على أن تلك اللغة وهذه المصطلحات بدأت تتشكل فيما أثر عن التابعي الجليل الحسن البصري وتلامذته، فضلاً عما روي عن الإمام علي بن أبي طالب وآل بيته، كما أن التفسير القرآني المنسوب إلى جعفر الصادق (ت. 148 هـ) في حقائق السلمي يزخر بالكثير من المصطلحات التي تداولها الصوفية للتعبير عن تجربتهم المتفاعلة مع فهمهم عن الله في القرآن الكريم، وهذا التفسير مبني على أن الخطاب القرآني أربعة مستويات تترتب تصاعدياً في "العبارات"و "الإشارات" و"اللطائف" و "الحقائق"، وأن كل مرتبة تخص صنفاً من المتلقين، وهي في ذات الوقت درجات المتلقي الواحد في الاقتراب من الكلام الإلهي. وينتج عن هذا الاقتراب فهم تأويلي خاص بكل درجة، يتولد عنه مصطلح خاص بذلك الفهم. ومهما يكن من أمر صحة النسبة إلى الصادق (التي اجتهدنا في إثباتها في مكان آخر)، فيكفينا الربط بين التأويل القرآني والمصطلح الصوفي الذي نما بالتدريج منذ عصر التابعين (مأثور الحسن ـ ت. 110هـ ـ وتفسيره) إلى عصر السلمي (ت. 412هـ) مروراً بسهل التستري (ت. 283) وتفسيره المعروف للقرآن العظيم، وابن عطاء الأدمي (ت. 309هـ).

ليس التأويل إذن إلا لغة التجربة حينما تكوًّن لدى المتلقي رؤية خاصة تحدد قراءته وتبلور فهمه لمقروئه، ولما لم يكن هذا الفهم متأتياً إلا بواسطة اللغة الأم الطبيعية التي يرجع إليها تماثل البنية التصورية عند كل مجموعة لغوية، فإن هذا المتلقي/ المؤول لا يمكنه أن يخرج عن "جذور" لغته، ولكنه يمنحها من تجربته الخاصة معاني خاصة حين يريد أن يصوغ تجربته أو قل تأويله، وقد تقتضي منه الصياغة اشتقاقاً جديداً أو نحتاً أو تعريباً (بالنسبة للعربية) أو ترجمة، وهذا نهج الاصطلاح في كل فن من فنون الحياة أو العلم، بل وفي تطور لغة التداول العامة نفسها أو الإبداع فيها، وقد كان للصوفية شأن خاص مع اصطلاحهم الذي تولد من التفاعل العرفاني مع النص القرآني كما قدمنا، ثم استقطب كل مكونات الثقافة الإسلامية، التي استوعبت أيضاً ثقافات أخرى سابقة عليها كما هو معلوم، ومن ثم فإن الصوفي لم يأبه في الغالب عند اختيار مصطلحه إلا بتوصيل المعنى المراد للسالك أو المريد، فكان المربي الصوفي كثيراً ما يضفي ثقافته العلمية الخاصة على خطابه وإشاراته، مستمداً من متداول عصره ما يقرب به المقصود، والصوفية في ذلك مؤمنون بأن المصطلح غير معناه وأن المضامين والحقائق هي من وراء الألفاظ والأشكال والرسوم، فكل ما في العالم مرئياً كان أو غير مرئي، إنما هو إشارات ورموز دالة على الخالق سبحانه.

Pages