You are here

قراءة كتاب ليلة الإمبراطور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ليلة الإمبراطور

ليلة الإمبراطور

كتاب " ليلة الإمبراطور " ، تأليف غازي حسين العلي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 1

خطفَ سعاد بطيارة وراح يدور بها من قارّة إلى قارّة

رأيت فيما يرى النائم، أنني أجلس القرفصاء على سجادة حمراء داخل قفص خشبي مزخرف. كان وجهي مصبوغاً بالأخضر والأحمر، وجسدي يضج بقرقعة الحليّ، وثوبي بالكاد يستر بعضاً من وركي وصدري، ويتحلق حولي رجال كثر، بشواربهم الكثة المعقوفة وذقونهم النابتة، وهم يرمقونني في شغف من قدمي حتى رأسي.. وكان أحدهم لا يتوقف عن مغازلتي ورمي الكلمات النابية في وجهي، وهو يحرّك بين الفينة والأخرى، وبطريقة استعراضية وقحة، موضع نظرات عينيه المنغرزتين في لحمي. وحينما كنت أرشقه بنظرة حادة من طرف عيني وهو يفعل ذلك، تداخلني الرغبة في البصق عليه، لكن القواد الذي كان يقف إلى جواري ويساومهم على استئجاري، لم يكن يدخر جهداً في مراقبة نأماتي وحركاتي وهو يدعوني، قبل فوات الأوان، إلى مزيد من التغنج والدلال، وإلا دفعت ثمن بلادتي وسوء فهمي وتصرفي. وفيما كانت تتناوشني نظرات العابرين ولمسات بعض العسس المندسين، كان القوّاد يدور حول القفص، يستدرج العابرين بصوتٍ ناعم سلس: اسمها سعاد.. هيفاء ميساء، وجهها أبيض مدوّر مثل البدر،وشعرها أسود مثل الحبر.. صدرها مكتنز يملأ كفين، ووركها فخيم لحيم يملأ حوضين.. خصرها ناعم مستدقٌّ، وبطنها بطن فرس حر غير مسترقّ ....

اقترب منه أحدهم وسأله: وبكم معاشرتها يا أخا العرب؟

فقال له القواد: بعشرة دراهم.

وحين وجد الرجل يعقد حاجبيه ويزمّ شفتيه مستغرباً، أردف يقول مستنكراً وهو يتملاني من فوق إلى تحت: إنه مبلغ ظالم على هذا الخصر الضامر والورك العامر.

واقترب منه آخر وسأله: يا أخا العرب، إن لي فيها رغبة والله، ولكني أخشى أن تكون مصابة بداء فتعديني، فهل عرضتها على طبيب قبل أن تحضرها إلى هنا.. فتنجيني؟

فأجابه القواد:بالطبع يا سيدي، فقد عدت بها للتو من مركز الأمراض السارية في حي الزبلطاني، وهي والحمد لله خالية من كل داء، وخاصة من هذا البلاء الأعظم الذي يسمونه الإيدز.

ويقترب منه ثالث ويسأله في ضعف وتذلل: ألا تكفيك خمسة دراهم يا أخا العرب، فنحن في سنة محل كما تعلم، وليس في الجيب ما يكفي لسد حاجة الباه. فيرد عليه القواد: اعذرني، فأنا لست ممن يلعبون بالأسعار مثل بعض التجار، وتسعيرتي هذه من وزارة التموين.

فوجدتني وأنا على هذا الحال، أشعر بالملل يحوطني، وبالتعب ينخر عظمي ويرخي مفاصلي، فاستلقيت على أرضية القفص.. وغفوت.

وإذ أصحو من النوم مذعوراً، أجدني أتحسس نفسي، فلا أجد حليّاً تخشخش على جسدي، ولا نهدين مكتنزين يتربعان على صدري، ولا وركاً لحيماً يتوسط وسطي.. فأعرف حينئذ أن كابوساً ركبني، وأنني رجلٌ ككل الرجال، فلا قفصاً يحوطني، ولا قوّاداً يقودني.. فنهضت لتوي من على السرير، رغم أن الوقت كان لا يزال مبكراً على الالتحاق بوظيفتي، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم سألت نفسي سؤال الحائر المستفسر: ما دخل سعاد الحلم التي كنتها بسعاد حبيبتي؟! فتذكرت في الحال أنني مساء أمس، وقبل أن أخلد إلى النوم، قرأت مئات السطور من كتاب “البغاء عبر العصور” الذي استعرته من أحد أصدقاء الدراسة. وكان ذلك الكتاب الفريد قد فتح أمام عيني باباً جديداً لم أكن أعرف عنه شيئاً من قبل، أما أحداثه وشخوصه وأمكنته فقد استحوذت على تفكيري، ما جعلني في ذلك الصباح الباكر، أعتقد بما لا يقبل الشك، أن ما جرى لي في ليل أمسي البهيم ذاك، ليس سوى أضغاث أحلام، وبقايا من كلماته وصوره، فقررت في الحال نسيانه، وعدم الغرق في تفاصيله وأوراقه.

وعلى غير عادتي في مثل هذا الوقت المبكر من النهار، فقد وجدتني أجلس إلى طاولتي لأكتب رسالتي رقم ستة وثلاثين إلى حبيبتي سعاد، التي لم أرها منذ يوم خطبتي لها، أشرح فيها ما يعتمل في قلبي، وأُعيد لها سرد قصة حبي وودي... فكتبت أقول:

(( حبيبتي الغالية سعاد...

أبثك أشواقي ولوعة أشجاني...أما بعد:

فإليك حبيبتي أهتف من أعماقي، وفي أجوائك أنفث أناشيد غرامي. أنا لا أزال كما كنت، أطوي ضلوعي على آمال أودعتها في طيات فؤادي وتلافيف دماغي، وحبك لا يزال في قلبي، كما عهدته، يدب في ربيع حديقتك، وإني يا حبيبتي شديد الإيمان بهواكِ، ولم أستطع رغم مرور كل هذه الأيام، تفسير صمتك المميت الذي يدميني! وإن عدم اكتراثك لرسائلي عرّضني لجرح مؤلم أججته عواطف ثائرة في حنايا ضلوعي..

لمَ صمتك؟ ولماذا لا تردّين على رسائلي؟ أجيبيني بالله عليك، ولا تدعيني أتخبط في بحور الحيرة والقلق، فقد كفاني انتظاراً وعذاباً واضطراباً.... حبيبك المعذب سعيد))

قرأت الرسالة مرة ومرتين وثلاث، ثم طويتها على مهل، وأنا أتخيلها تركن بحنو بين يدي سعاد، بعد أن وضعتها داخل مظروف أبيض دسسته في جيب سترتي، مستحضراً كعادتي ما قاله لي ذات يوم جد المحبين المدعو ابن حزم الأندلسي، بأن ما حدث لي ما هو إلا هجر أوجبه العتاب لذنب وقعت فيه، وأن فرحتي بالرجوع إلى حبيبتي سعاد سيكون فيه سرور الرضى عما مضى، ذلك أن رضى المحبوبة بعد سخطها، سيكون لذة في القلب ما بعدها لذة، وموقعاً في الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا.

تعرّفت إلى سعاد يوم كنت في أمانة المحافظة،أراجع رئيس دائرة مكافحة الكلاب الشاردة، في مظلمة وقعت عليّ من رئيس البلدية الذي لم يدفع لي مكافأتي الشهرية، بعد قتلي ثلاثة كلاب جعارية. وبينما كنت أنتظره حتى يفرغ من أشغاله، دخلت عليه سعاد تستوضحه في أمر، فعرفت أنها تعمل في نفس الدائرة، وأنها واحدة من معاونيه.. واستغربت لحظتئذ، سرّ دخولها عقلي واستيطانها قلبي.

Pages