رواية " سأقذف نفسي أمامك " ، تأليف ديهية لويز ، والتي صدرت عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من اجوا
You are here
قراءة كتاب سأقذف نفسي أمامك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لم أستطع التحرك من مكاني، وأنا أشعر بكل ذلك الدم الذي يسيل منه ويملأ يديّ وثيابـي. التفتُّ إلى أبـي الذي ظلّ مسمّرًا في مكانه يتفرّج على المشهد دون أن يفعل شيئًا، وعيناه مفتوحتان عن آخرهما.
خرج دون أن ينطق ببنت شفة، تصوّرت أنه سينادي أحدًا لإسعاف نسيم. بعد لحظات أحسستها طويلة من ترقب الباب لم يعد.. ونسيم مرتمٍ في حضني دون حراك. تحركت أخيرًا من مكاني، ارتديت سترة والدي وخرجت بنسيم إلى الشارع.
كانت أوّل مرّة أمقت فيها منـزلنا، أول مرة أشعر أن موقعه في وسط غابة، قد يكون السبب في مصيبة. كنت أجري كالمجنونة تحت المطر، أحمل نسيم بين ذراعي وهو ينـزف بشدة. لأول مرة أشعر أنّ الطريق التي أسلكها كل يوم في ثوان معدودة، أعبرها في تلك اللحظات في دقائق كثيرة وثقيلة.
لم يكن الظلام ولا البرد ليمنعاني من الوصول إلى الطريق الرئيسي، أوقفت أول سيارة مرّت، ولم يكن يهمني كثيرًا ما قد يحدث أو يقال. دخلت بسرعة إلى السيارة، وبدأت أصرخ بالسائق وكأنه يعمل عندي.
- أسرع، ماذا تنتظر؟ انطلق بسرعة إلى أول مستشفى..
- ما الذي حدث؟ ما به؟
- أسرع أرجوك، ليس وقت الأسئلة.
- حسنًا.. اهدئي، سيكون بخير بإذن الله.
انطلق مثل الرصاصة، يقطع الطريق في ثوان. لم أكن أفكر في شيء، وكأن الصدمة جمدت لفترة من الزمن ذهني وجسدي. بعثت نظري إلى نافذة السيارة، المطر بدأ ينهمر على الزجاج بقوة وكأنه يردّ ثأرًا قديمًا.
ساعدني الرجل لندخل نسيم غرفة الاستعجالات في مستشفى "أقبو". جلست في ركن من الرواق الطويل، أدعو الله أن لا يحدث له مكروه.
- سيشفى بإذن الله، لا تقلقي..
نظرت إلى الصوت الذي يحدّثني، التقت عيناي بعينيه العسليتين، انـزلق نظري إلى شفتيه وملامح وجهه الهادئة، لم أستطع أن أنتشل عينيّ وهو يتفحصني كالمستغرب من نظراتي المريبة. لم أكن أدري بالتحديد إن كان نظري قد تخطى حدود وجهه الوسيم، ووصل إلى نقطة ثابتة منه لا يمكن الانفلات منها. للحظة نسيت الجسد المستلقي على سرير المستشفى في الخط الفاصل بين الحياة والموت. نسيت أين أنا. ولماذا أجلس على كرسي مهترئ الأطراف برفقة هذا الرجل، ننتظر خبرًا قد لا يأتي!
استفقت من غفوتي على يده التي تهزّ ذراعي، وهو يتمتم بكلمات لم أفهم منها الشيء الكثير. نظرت حولي فلم تلتق عيناي سوى بأشخاص متعبين ينتظرون دورهم للإسعاف. الآهات التي تملأ غرفة الانتظار تصمّ الآذان، وتبعث في النفس كربة مرهقة.
وقعت عيناي على امرأة تحمل طفلها الصغير بين ذراعيها، وفستانها الأسود ملطخ بالدماء. الدموع تنخر عينيها المنتفختين، تتوسل كلما رأت طبيبًا أو ممرضة. شعرها الأسود الذي يغطي كتفيها منكوش وكأنها خارجة من معركة، طفلها في الثالثة من عمره تقريبًا ينـزف من يده، ودموعه لا تريد أن تجف من الألم. تسمّرت عيناي على مشهد الأم وطفلها، شعرت بغصّة في قلبـي لكل ذلك الإهمال، لكني تذكرت نسيم، وقد مضت ساعة تقريبًا منذ دخوله إلى الاستعجالات. حملت رأسي بين يديّ، أتوسل الله خفية أن لا يدفع أخي ثمن أخطائنا، فقط لأنه تواجد في المكان والتوقيت الخطأ.
شعرت بالبرد يعبر جسدي، وقشعريرة تجتاحني لمجرد فكرة ماذا أفعل لو فقدت أخي الوحيد، سندي ومصدر سعادتي وسط خراب حياتي. انتبهت أني خرجت بقميص نومي الممزق، وسترة والدي ملطخة بالدماء، كأني هاربة من جريمة لم يكن لي يد فيها.