كتاب " عروس عمان " ، تأليف فادي زغموت ، والذي صدر عن دار جبل عمان ناشرون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب عروس عمان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عروس عمان
ليلى العروس لا تتوج دون رجل
يا له من يوم! ويا له من اجتياح لمشاعر مختلفة كسيل جارف جعلني أتخبط بين الدمع والابتسامة، بين الإحباط والفخر، وبين التفاؤل وفقدان الأمل! يوم طويل تركني الآن طريحة الفراش، فاقدةً الإحساس، وغارقةً في دوامة من الأفكار. أحاول أن أستوعب معطيات حياتي وقواعد محيطي.
غريبة هي الحياة، فالدمعة والبسمة أُختان. بقدر اختلافهما وتنافرهما فإنهما تنتهزان أبسط الفرص لتلحق إحداهما بالأخرى، وفي أحيان كثيرة يفضلن اللقاء على سطح الوجه نفسه.
تركت فراشي باكرًا هذا الصباح. هجرني النوم ليلة أمس ولم يغمض لي جفن. أفكاري كلها تنصب على ورقة بيضاء تحمل مفاتيح مستقبلي- أو هكذا اعتقدت. ورقة بيضاء صغيرة تحمل نتيجة تعب أربع سنين من الحياة الجامعية، وليال طويلة أمضيتها بين أرقام حسابية وأحلام التفوق وتحدٍّ رافقني منذ الصغر.
كان زميلي في الكلية، لؤي، يشكل لي هاجسًا وحافزًا في الوقت نفسه. كونه رجلًا كان يزيدني إصرارًا.
تحديَّ للتمييز الجنسي ازداد يوم قرر لؤي إطلاعنا على رأي والده بتفوقي عليه الفصل الماضي: ”إخس عليك، بنت تبطحك!“ منذ ذلك اليوم وسخرية والده ترن في أذني. كأنها دينامو يدفعني بقوة رهيبة للعَدْو والتفوق و’’بطح‘‘ لؤي ووالده وكل بني جنسه. أنا امرأة و’’متفوقة‘‘، صفة أريد أن تضاف إلى هويتي في نظر الجميع.
شعوري بالفخر لرؤية اسمي يتربع أعلى قائمة المتفوقين جعلني أتغاضى عن نظرة لانا الاستعلائية، وهي تلوح بيدها في حركة حاولت أن تجعلها طبيعية كي لا يفوتني لمعان الخاتم في إصبعها. رأيت الخاتم. تظاهرت بعدم رؤيته. لوحت بيدها أكثر من مرة وهي تحاول جاهدة الابتسام ومباركة تفوقي.
بدت واثقة وهي تعلن تفوقها في ما تحسبُه هي وكثيرون غيرها الأهم: خطبتها.
’’أنا وعمر خطبنا‘‘.
قالتها بينما كانت تميل بدلع على كتف عمر.
من ثم فقدت صبرها ووضعت الخاتم في وجهي. فوجدت نفسي أجاهد لرسم ابتسامة على وجهي ومباركة تفوقها رغمًا عني. فتحت ذراعيَّ وضممتها إلى صدري على الفور يقينًا منِّي بأنني لست جيدة بالتلاعب في تعبيرات وجهي.
وبعد جهد هائل؛ وبعد ثوانٍ حسبتها دهرًا، خرجت الكلمة من فمي باردةً كالثلج: ”مبروك“.
كان عمر أول رجل في حياتي. تعرفت إليه في أيامي الأولى في الجامعة. أُعجب بي ولاحقني. أعجبت به لكنِّي تمنَّعت. لم أملك الثقة الكافية بالنفس للتعامل مع الرجال الغرباء؛ فقد أتيت من مدرسة تفصل البنات عن البنين، ومن عائلة محافظة تحرم العلاقات العاطفية قبل الزواج.
لم تساعدني قواعدي الصارمة على مقاومة إعجابي به، فسقطت أمام إصراره وبدأت بمواعدته تحت شروط قاسية- شروطي أنا. شروط عديدة لم تسمح لعلاقتنا بالتنفس: ممنوع تبادل الهدايا، ممنوع الاتصال بالهاتف بعد ساعات دوام الجامعة، ممنوع أن نرى بعضنا بعد ساعات الدوام أيضًا... ممنوع ممنوع ممنوع...
تركني عمر بعد ثلاثة أشهر. بعد وقوعي في غرامه، في حب أول رجل في حياتي. لم تناسبه شروطي. تبخر إعجابه بي بعد أن ملك قلبي وكياني. كنت مستعدة للتنازل عن بعض شروطي، ولربما تقبُّل القليل من شروطه، لكنه لم يفسح لي المجال.
ترقرق الدمع في عيني بينما كان يبلغني قراره بإنهاء علاقتنا. حاولتُ تمالك نفسي لكنِّي فشلت. كرامتي لم تسمح لي بمجادلته أو حتى مساءلته.
’’هذا قرارك الأخير؟“
هزَّ رأسه، فحنيت رأسي، وغادرت بصمت.
لانا تستطيع منحه ما لن أستطيع. هي مختلفة، من بيئة أخرى ومجتمع آخر. تحسبُ نفسها متحررة، لكننا نحسبها قليلة حياء. تتكلم بدلع وتحسِنُ إبراز مفاتنها. تصادق الذكور وتتجنب الإناث. جميلة في نظر الكثيرين، لكنِّي لم أستطع يومًا أن أرى جمالها. ربما لأن شخصيتها الفجة تقبِّحها في نظري، أو ربما هي غيرة أنثى تعلم جيدًا أن قواعد المنافسة غير متكافئة.
لم يكن ذلك رأيي وحدي، فرَنا وحياة كانتا تشاركاني الرأي. نسميها ”باربي“ ونتسابق إلى الاستهزاء بحركاتها وتصرفاتها. نجتمع ثلاثتنا عند مدخل كلية التجارة. أنا أراقب لانا وعمر، رنا تراقب جانتي، وحياة تراقب باقي شباب الكلية. نسمي أنفسنا الثلاثي المرح. جمعَتنا الحياة الجامعية وكرهُنا للانا. رنا أظرفنا وأكثرنا جرأة، حياة ثاقبة البصيرة وكتومة، وأنا أكثرهن جدية والتزامًا.
موقفٌ كهذا كان سيزعجني ويقلب لي مزاجي لو حصل في يوم آخر. اليوم مختلف، فأنا ناجحة بتفوق وأنتظر بفارغ الصبر كي أزفَّ خبر نجاحي إلى عائلتي، فأرى نظرات الفخر في عيونهم. دون شكّ، أمي متوقعة نجاحي، هي أيضًا نهضت منذ الصباح الباكر ودعت صديقاتها وجاراتنا وقريباتنا للاحتفال.
دخلتُ البيت مثل عروس على زغاريد النساء، معتزة بنفسي وبإنجازي. فرحتُ بهذا العدد من النساء المجتمعات للاحتفال بنجاحي. زغردت أمي بصوتٍ عالٍ.
ضمتني إلى صدرها وهمست في أذني:’’عقبال العريس‘‘. تركتني أمي، فتلقَّفني صدر خالتي التي ضمتني هي الأخرى وهمست: ’’عقبال ما انشوفك في بيتك‘‘. نظرت إلى عيون النساء الأخريات، وسرحت في همساتهن: ’’ماشالله، صايرة عروس‘‘. ’’انشالله بتجوزيها وبتفرحي فيها‘‘. ’’انشالله شاطرة في الطبخ كمان؟‘‘
اتجهتُ بنظري نحو أختي الكبرى سلمى. كانت تجلس بجانب جدتي، صامتة وسرحانة في تعليقات النساء.
جدتي أيضًا صمتت دهرًا ونطقت كفرًا. هزَّت رأسها وتمتمت: ’’أنا عارفة، أنا اتجوزت على الأربعتش. كانوا يجوزونا صغار مش متل هالأيام... يالله، انشالله يكون حظك أحسن من أختك بلاش تبورو إنتو الجوز‘‘.
اصفرَّ وجه سلمى لصفعة ’’ستي‘‘. راقبتها وهي تحاول حبس الدمعة في عينها. فشلَتْ. خجلَتْ من نفسها وانسحبت إلى غرفتها. حاولتُ اللحاق بها لأواسيها، فاستوقفتني صيحات البنات وزغاريدهن. أسرعت نحو مصدر الضجيج متسائلة: ”شو في؟“ أتاني الجواب من هبة ابنة عمي: ”أنا حامل!“
اجتمعت معظم النساء حول هبة كأن الاحتفال مُعدٌّ لها.
لم أعد أنا عروس الحفل، فالعروس لا تتوج دون رجل. حقيقة أيقنتها في لحظة خاطفة هزت عرش كياني. سنين عدة أهدرتها بينما أحاول أن أبرهن تفوقي. اعتقدت أن شهادتي سترفعني في عيون الجميع، وترسخني شخصًا كاملًا مستقلًّا.
لكن وفي لحظة خاطفة كلمح البرق، صعقتني حقيقة أن شهادتي ما هي إلا خطوة أخرى نحو الهدف الأكبر... الزواج.