قدّم جمال محجوب في روايته «السفر مع الجن»، (ترجمة أسعد الحسين، نينوى، دمشق2011)، سيرة مهاجر في أوروبا، يرتحل بين جنباتها، ويسوح في مدنها، يستكشف معه جماليات القارّة وأسرارها.
You are here
قراءة كتاب السفر مع الجن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
مدخل
ارتفعت كرة غولف بيضاء صغيرة وتقوست في الجو لتصيب رأس والدي حين كان في التاسعة من عمره. لقد أخبرتني جدتي حبوبة بهذا فأنا لم أكن موجوداً في العالم آنذاك.
أتخيل المشهد بالشكل الآتي: أراهم يمطون أعناقهم للنظر عالياً وأبي يسند ذقنه بيده، وكوعه على الحقيبة الجلدية الضخمة التي تقف منتصبة بجانبه. فقد كانت وظيفته حمل عصي الغولف للخواجة الانكليزي، ساكن البلد الأصلي حمال لعصي الغولف. كان يحمي عينيه بحافة يده المسطحة حين اختفت الكرة في هالة الشمس الواسعة الشاحبة. تخيلت للحظة، أن تلك الكرة أسرته وهي تشق عباب السماء وترتفع عالياً عن الأرض. إن كان أبي أي شيء فهو حالم يقظة، كان يجلس في الصف المدرسي وهو يربت قدميه ببعضهما ويدمدم "تلألأي أيتها النجمة الصغيرة، أتساءل من تكونين" إلى أن صفعه المعلم الانكليزي خلف أذنه وهو يصرخ به " استيقظ يا صغيري يا وحيد القرن!" زودتني أمي بهذه التفاصيل عن وحيد القرن. أعطتني النساء كل القصص التي لها معنى في حياتي.
أتساءل ما الذي كانت تعنيه له الكرة في تلك اللحظة، هل كانت روحه المحلقة عالياً فوق الكوكب، أم كان إحساسه في التصميم أم رسالة حملها له ملاك همس بالتعويذات والرقى في أذنه؟ مهما كانت البورسلانية الصلبة فقد سقطت من السماء الصافية وضربته بين عينيه مباشرة فسقط على الأرض بلا حراك.
لكل شيء بداية أو نقطة ابتداء أو مكان مغادرة أو نقطة ترقيم، تنهي فيها القصة القديمة لتبدأ واحدة جديدة. تعودت الحياة على فعل ذلك. تعتقد بأنك تعرف كيف ستصبح ثم تضرب. بالنسبة لي تعلم كرة الغولف تلك مسار عائلتي الاهليلجي الغريب، ذلك المسار الذي أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم. أي أنها كانت قدرنا الموحد، عائلة سرقت من مسارها في ذلك الصباح. لقد كنا دائما في تأرجح صرعي منذ ذلك الوقت.
أخبرتني حبوبة فيما بعد بأن والدي ظل في الخارج وفي البرد لمدة أسبوع وأنها كانت تذهب للجلوس بجانبه ليلاً ونهاراً في المستشفى العسكري الانكليزي في الخرطوم التي قبلته بناءاً على الرواية التي أفادت بأنه أصيب على خط الواجب وليس حين كان أجيراً يحمل عصي الغولف لضابطين من سلاح الجو الملكي. اعتقد الجميع بأنه لن يسترد وعيه أبداً وأنه سيظل هكذا حتى يتوقف قلبه عن الخفقان. كان الجيران يأتون ويجلسون في البيت طول اليوم، يتدحرجون للأمام والخلف مع مناديل معطرة ثبتوها على أفواههم ويهوون رقابهم بأصابعهم، متوقعين مهمة النواح القادمة. مرت ثلاثة أيام دون أن يحدث أي تغيير، لم يكن حياً ولا ميتاً بل معلقاً في مكان ما بين هذا العالم والعالم الآخر. هز النعاة المفترضون رؤؤسهم في رعب ودمدم الأكثر تطرفاً منهم بأن استخراج العذاب بهذا الشكل وكيف يمكن لامرأة واحدة أن تتحمل كل هذا الحظ العاثر؟ طفلها الوحيد، ابن زوجها الوحيد ذلك الرجل المسكين الذي توقف قلبه بينما كان في مكان -لم يسمع به أحد أو يراه يدعي بالمسمار للعمل في قسم للسكك الحديدية والبواخر (ريلويز اند ستيمر) كان يديره البريطانيون أيضاً.
مر يوم آخر، ولم يحدث أي تغيير. بدت حبوبة معتادة على قائمة رعب الحياة وتعلمت أن تسلم نفسها لكل ما يرمى بطريقها وقالت أنها تعرف ومتأكدة بأنه لن يموت، قد يصحو لكن كأبله تماماً أو لا يصحو أبداً، لكنه لن يموت، أعرف ذلك. ابتسمت بدفء ذكرى ذلك الزمن البعيد وقالت " في عائلتنا رؤؤسنا كالصخور لكن قلوبنا لينة".