You are here

قراءة كتاب السفر مع الجن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السفر مع الجن

السفر مع الجن

قدّم جمال محجوب في روايته «السفر مع الجن»، (ترجمة أسعد الحسين، نينوى، دمشق2011)، سيرة مهاجر في أوروبا، يرتحل بين جنباتها، ويسوح في مدنها، يستكشف معه جماليات القارّة وأسرارها.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
كنت أجلس معها وأصغي إلى حديثها بتلك الطريقة البطيئة المتعمدة التي تنبئك بنعومة وثبات أن الاندفاع لا يوصل إلى أي مكان يجب أن نسمح للأشياء بأن تأخذ وقتها. في المساء كنا أنا وهي نحمل فراشينا إلى باحة المنزل (الحوش) لنستلقي على خيوط ألياف النخيل القاسية المفروشة على أسرّة قديمة تصدر صريراً. كانت تتكئ على جانبها وتطوي ساقيها تحتها، تضع رأسها بين راحتي يديها أما أنا فكنت استلقي أمامها وأصغي مفتوناً. لم أكن أرى وجهها، بل أسمع صوتها آتياً من الظلام فقط. في بعض المساءات كانت تتكلم لي وحدي وفي بعضها الآخر كان معنا آخرون في باحة الدار، كان البيت يمتلئ بالناس دائماً، قادمين وذاهبين. العمات والخالات وبنات الأخوة والأخوات اللواتي يعشن هناك مدة من الزمن ثم يرحلن، أو الجار الفضولي الغريب الذي يأتي.
 
كان بيتاً تملأه النساء فكل رجاله رحلوا منذ زمن بعيد، رحلوا من أجل نساء أخريات ومراع أخرى، رحلوا إلى خارج البلاد للعمل ولم يسمع عنهم بعد ذلك ثم ماتوا بانتظام مرعب لدرجة أنني عاهدت نفسي بأن أذهب لإجراء فحوصات طبية دورية. تلاشى الرجال ولم يبق منهم سوى نقاط مرجعية في سيرة تلك النسوة. كانوا هناك في شال الزفاف الذي طوي بحرص وخزّن في حقيبة محطمة منذ عقود من الزمن أو في صور باللونين الأبيض والأسود موضعة داخل الخزانة مع الأطباق الجميلة والأكواب الزجاجية التي لم تكن تستخدم أبداً. في إحدى الزوايا ثبتت صورة جواز سفر لشاب وحفظت مجعدة عرفت بأنه عمي أو ابن عمي الثاني وهناك صورة أخرى لرجل عرفت بأنه جدي، الذي لم أقابله أبداً لكن من خلال ملامح وجهه استطعت تمييز أثر من الشبه الواهن بأبي وخاصة الشوارب، كان نحيلاً أسمراً ورشيقاً في قميص أبيض وسروال واسع . كأن الرجال ضغطوا قبل أن تؤخذ لهم صورهم، يقفون أمام خلفية استديو مطلية رسم عليها نهر وقمر. هاهو هناك، خالد مؤبد يجمع الغبار وسط أطباق الحساء وفناجين الشاي الملونة. هذا ما يحدث للرجال، كما تخيلت: ينتهون في خزن زجاجية يجمعون فيها الغبار.
 
تناقلت النسوة المحيطات بي في فناء الدار أحاديث المساء وانشغلن بتفاصيل حياتهن القلقة، بينما اكتظت السماء فوقنا بالنجوم التي كانت تومض بدهشة مستمرة مطوقة مسرحنا بإضافات صغيرة. في الغالب، حين تصارع أعيننا النوم يتولد لدي شعور غريب بأنني أسقط وسط شبكة واسعة، شبكة معقدة محاكة من عدد غير محدود من القصص لم يكن لدي فكرة عن عددها أو أنها حقيقية أم مخترعة وأيها توارثته الأجيال ومن حمل في السوق ذلك الصباح بعينه حضناً من الباذنجان والخيار الملتوي. بدا الزمن يتدفق في تلك اللحظة فقط. كل شيء كان قديماً على شكل مرعب وجديد بنفس الوقت. لم أقدر أن أتخيل ما تحتويه كل تلك القصص لكنني أتذكر وبشكل جيد القناعة المسيطرة بأنها كانت لي وحدي لاكتشفها وعرفت أيضاً أنه مهما عشت وكان عمري طويلاً فلن أقدر على تعلمها كلها ولكن ذلك لم يكن مهما على أية حال.
 
بالنسبة لأبي، حسناً، لم يعان من ضرر دائم مرئياً لكنه منذ ذلك اليوم كما قالت حبوبة لم تعد تعرف ما الذي سيتلو ذلك، فقد انتزع شيء من داخله ونقل من مداره المرسوم بشكل دائم وإلا كيف يمكن تفسير ما حدث داخله ولحياتنا كلنا في الواقع.
 
أعتقد أحياناً بأنني أحسد هؤلاء الأشخاص الذين يعرفون مكان انتماءهم، الكتّاب الذين لديهم لغة وتاريخ منحا لهم دون جهد أو تعب كطرائد جاهزة. مع أمة من الشركاء الراغبين، أبناء بلد يرون مصيرهم وتاريخ أمتهم وتقاليدها الأدبية تعكسه مرآة جهود كاتب محاكة بشكل جيد. يسعدني جداً هذا الامتياز طبعاً. أنا أنتمي إلى قبيلة بدوية، إلى الرعاع الكبار، إلى هؤلاء الأشخاص الذين ولدوا في الصدوع التي بين الجروف القارية، في الفواصل المنسية بين مناطق الزمن المربوطة بخطوط العرض، قبيلة ليس لها موضع ثابت، مشردون لا دولة لهم، لدي جواز سفر وعدد وافر من الوثائق الأخرى التي تعرف بي وتخبر العالم أين كنت دون أن تبين من أكون أو إلى أي مكان سأذهب، لغتي لسان غير شرعي للضرورة والارتجال والنحو الرديء وسوء التفاهم القاري، أنا غريب أينما أذهب، لم أمنح تاريخي بل علي أخذه واسترداده قطعة وراء أخرى، انتزاعه من بين أعمدة القرون ورفوف المعارف العاجية، كلماتي الورقية المهلهلة أبعدتها تلك المجلدات الضخمة المربوطة بالجلد والمكتوبة بالدم، أمتي قائمة عشوائية من أماكن موجودة على الخريطة مررت بها دون أن يكون لي أو عليها أي مطلب. قد يقول البعض أنني تشبهت بالغرب لكنهم مخطئون وقد يقول غيرهم أنني أبعدت وغربت واندمجت بهم لكن ذلك خروج عن الموضوع. هذه هي طريقة الأشياء. لا تخطئوا بالحكم علي،فأنا لا أبحث عن الشفقة وإنما ببساطة لم أستطع فهم هذا كله من قبل وليس علي ذلك في الحقيقة. كان هناك دائماً وقت آخر، إلى الأمام، حول اللفة الثانية. تلك هي الطريقة التي يسير غالبيتنا عليها في الحياة، حتى يأتي شيء يغير ذلك وفي حالتي لا الأشياء كانت كثيرة ولا الأشخاص أيضاً.

Pages