You are here

قراءة كتاب السفر مع الجن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السفر مع الجن

السفر مع الجن

قدّم جمال محجوب في روايته «السفر مع الجن»، (ترجمة أسعد الحسين، نينوى، دمشق2011)، سيرة مهاجر في أوروبا، يرتحل بين جنباتها، ويسوح في مدنها، يستكشف معه جماليات القارّة وأسرارها.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 8
الفصل الثاني
 
أكلنا سمكاً وسلطة البطاطس بنكهة الخل. خارج الحمامات، وقف رجل فَقَدَ اثنان من أصابعه يعزف لحناً حزيناً على هارمونيكا بالية وهناك رائحة قوية للمطهرات وفي الداخل سائق شاحنة كان يسرّح شعره أمام المرآة، لَكَمَ بقبضته موزع الواقيات وهو في طريقه إلى الخارج.
 
يجب أن أوضّح بأنني أكره قيادة السيارات، حسناً ليست القيادة وحدها بل الأشياء التي تصاحبها مثل الطرق ومستخدميها الآخرين والعربات السريعة وعلى العموم ترعبني أغلب أشكال النقل. شعوري الأساسي هو طالما أنك تعيش وتتنفس جيداً في مكان واحد فلماذا تخاطر بكل ذلك وتنتقل إلى غيره. كم عدد الأشخاص الذين يموتون جراء البقاء في مكان واحد؟ إنهم اقل بكثير من الأشخاص الذين يموتون وهم يحاولون الوصول إلى مكان آخر. الطيران طبعاً أسخف أشكال النقل جميعها. تلك المسرحية الإعلامية الكاملة التي نتحملها بالإكراه كي تبدو معقولة تماماً ليصبح من العادي جداً أن تقوم بربط نفسك داخل غمد رقيق من الألمنيوم مملوء بوقود عالي الأوكتان ينقذف في الجو بتسارع متزايد بالإضافة إلى المراحيض والحمامات الصغيرة المعطرة والحلويات والسكاكين والشوك البلاستيكية وكرات الخبز التي تحتاج إلى منجل لاختراقها، وهذه التمثيلية التحذيرية في شرح عمل أنظمة السلامة، حيث توجد المخارج: أربعة مخارج فوق الجناحين، اثنان في مؤخرة الطائرة واثنان آخران في مقدمتها. إن فقدت الطائرة ضغطها أجذب القناع نحوك وضعه على فمك وتنفس بشكل عادي، تنفس بشكل عادي. ما هو العادي بأن تعض الهواء من خلال قناع بلاستيكي وأنت تسقط على الأرض من ارتفاع ثلاثين ألف قدم في كفن معدني محترق. عداك عن وظيفة سترة النجاة التي تحت مقعدك أو المقعد الذي أمامك وسحبها بقوة نحو الأسفل على الوصلة المفصلية-انتظر- وأنت تغادر الطائرة.
 
متى كانت آخر مرة سمعت فيها عن طائرة تعطلت وسقطت بشكل أنيق ثم خرج كل من فيها بسترات نجاتهم؟ لم يحدث هذا أبداً. لن تكون هناك مشكلة في العثور على المخارج لأنها ستكون مسدودة بالأشخاص المتدافعين. يصبح الناس عدوانيين لمجرد إيجاد حيز في الأدراج الداخلية التي فوق الرأس حين يحاولون حشو حقائبهم اليدوية التي لا يستطيعون رفعها إلا بصعوبة. يبدأ الناس العاديون والعاقلون بالاندفاع المفاجئ حين يسمعون نداء الرحلة كما لو أن الطائرة ستتركهم بلا حيلة في صالة الانتظار مع بطاقة الصعود الممسكين بها براحات أيديهم المتعرقة، بدافع الحقد يقطع الناس طريقك ويقفون على أصابع قدميك ويغرسون حقائبهم الظهرية بوجهك. إن كانت الطائرة ستخر ساقطة نحو الأرض هل يفترض بنا فعلاً أن ندّعي بأن هؤلاء الأشخاص سيتصرفون بشكل هادئ ولا يدوسون على بعضهم البعض حتى الموت في ممرات الطائرة وهل سيكون أحدهم بعقل متفتح لفتح أحد تلك المخارج وأن الطائرة لن تسقط مثل طلقة في المحيط المظلم، ربما، لكنني لست في عجالة لإكتشف ذلك.
 
هناك بدائل عن الطيران. هناك القطارات لكن حمولتها مفرطة وضجرها مفرط وتأخرها دائم، الرحلة التي مدتها ساعتان تتحول فيها إلى ثمان ساعات من العذاب وإلى محاولة لتجنب السيل المتدفق من شطف الحمامات وفيض من الصحف المبعثرة وعبوات الجعة الفارغة التي في الممرات وحين يسافر القطار قد يكون الأكثر إزعاجاً. يظل الطريق أخطر وسائط السفر بمناظر المعدن المتشابك والشرارات المتطايرة والأطراف مقطعة التي تخفيها كل الطرق لكن الطريق الألماني السريع يحرض نبض القلب في فواصل منتظمة، فالسيارات عليه إما أنها تزحف وتسير ببطء أو تنطلق بسرعة الضوء وهي تتجاوزك. ليس هناك وضع وسط بينها. تتأكد بالنظر في المرآة الخلفية مرتين ثم تشير بأنك ستستأنف السير وفجأة تملأ الأضواء الوامضة المكان وتحاول سيارة بورش فارهة الصعود على عادم سيارتك. إنهم لا يؤمنون بتقليل السرعة في هذه البلاد فقلت لنفسي بأن ذلك ضد قوانين الطبيعة لكنه تشريع قانوني وليس إرثاً جينياً.
 
يساعدني الحديث على إبعاد الخوف عن ذهني. عدنا إلى الموضوع المحبب أنا وولدي ليو، انه في الثامنة تقريباً، تمثل السنة الواحدة لحياته جزء أكبر بكثير مما تمثله لي فحين تكبر يعني لك الزمن أقل. بطريقة ما، له رأي صحيح في ذلك. تحدث الأشياء بوتيرة أسرع حيث تكون طفلاً، السنوات الخمسة عشر الأولى من حياتك تبقى معك إلى الأبد، زمن يزخر بكل عجائب وغرائب تغيرات الحياة، بعد ذلك حين تنتهي من حب الشباب والقلق تستقر في حالة ثابتة طيعة من الوجود ويستبدل التطور بشيطان الشياطين، الدراية العلمية الشاملة ويتحرك الزمن بسرعة أكبر دون أن نلاحظ ونصادف أحد معارفنا السابقين فنقول (آه هل مرت عشر سنوات فعلاً، عقد من الزمن مر وانصرم دون أن نلاحظ ذلك( ويصبح أثمن حين ندرك الدرجة التي يجب أن تستغله فيها. ما الذي حققناه؟ ما الذي حدث في كل ذلك الوقت؟ لا يظل بارزاً وثابتاً في ذاكرتنا سوى الطفولة، يبقى شعورنا بمن نحن متجذراً قي تلك السنوات الخمسة عشر الثمينة.

Pages