كتاب " الفلسفة في الحاضر " ، تأليف آلان باديو و سلافوي جيجِكْ
You are here
قراءة كتاب الفلسفة في الحاضر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
بمواجهة هذا الحالة، ما هي الفلسفة؟ إن الواجب الوحيد للفلسفة هو أن تُظهر بأن علينا الاختيار. أننختار بين هذين النوعين من الفكر. ينبغي أن نقرّر فيما إذا كنا نريد أن نكون في جانب سقراط أم في جانب كالّيكليس. في هذا المثال، تواجه الفلسفةُ التفكيرَ كخيار، التفكير كقرار. وإن واجبها الملائم هو أن تفسّر الخيار. وبذا يمكننا قول الآتي: يتشكّل الوضع الفلسفيّ في اللحظة التي يتم فيها تفسير الخيار. خيارُ وجودٍ أو خيارُ فكر.
المثال الثاني: وفاة عالم الرياضيات أرخميدس. إن أرخميدس أحد أعظم العقول التي عرفتها البشرية. وحتى يومنا هذا، لا نزال نُفاجأ بنصوصه في الرياضيات. كان قد درس اللانهاية، وقام عمليًا بابتكار التفاضل والتكامل المتناهي في الصغر قبل نحو عشرين قرنًا من نيوتن.لقد كان عبقريةً استثنائية.
كان أرخميدس يونانيًا من صقلية. وحينما تم غزو صقلية واحتلالها من قِبل الرومان، شارك في المقاومة، مبتكرًا آلاتٍ حربية جديدة – ولكن الرومان انتصروا في النهاية.
ومع بداية الاحتلال الروماني، تابع أرخميدس نشاطاته. كان، على عادته،منهمكًا برسم أشكالٍ هندسية على الرمال. وفي أحد الأيام، حينما كان جالسًا يفكّر عند حافة البحر، يتأمّل الأشكال المعقّدة التي رسمها على الشاطئ، وصل جنديٌّ رومانيّ، أشبه برسول، ليخبره بأن القائد الرومانيّ مارسيلوس يريد رؤيته. كان الرومان شديدي الفضول بما يتعلقبالعلماء اليونان، بشكلٍ يشابه قليلاً ما يمكن أن يكون عليه فضول مديرٍ تنفيذيٍّ لشركة تجميلٍ متعددة الجنسية بشأن فيلسوفٍ شهير. إذًا، يريد القائد مارسيلوس رؤية أرخميدس. بيني وبينكم، لا أظن بأن بمقدورنا تصوُّر أن القائد الرومانيّ كان خبيرًا في الرياضيات. ببساطة، وفضوله يُحسب له، كان يودّ معرفةقَدْر هذا المتمرّد أرخميدس. ولذلك، أرسل الرسول إلى الشاطئ. ولكن أرخميدس لم يتزحزح. كرّر الرسول قوله: «يريد القائد مارسيلوس رؤيتك». وبقي أرخميدس صامتًا. لم يستوعب الجندي الرومانيّ، الذي من المحتمل ألا يكون هو كذلك شديد الولع بالرياضيات، كيف يمكن لأحدٍ أن يتجاهل أمرًا من القائد مارسيلوس. «أرخميدس! القائد يريد رؤيتك!». بالكاد رفع أرخميدس عينيه، وقال للجنديّ: «دعني أُكمل برهاني». فأجاب الجنديّ بسرعة: «ولكن مارسيلوس يريد رؤيتك! ما الذي يهمّني من برهانك!». ومن دون أن يجيب، تابع أرخميدس حساباته. بعد هنيهة، يقوم الجنديّ، الذي وصل إلى أقصى حالات غضبه الآن، باستلال سيفه ويضرب أرخميدس. يسقط أرخميدس ميتًا. ويطمس الشكلَ الهندسيَّ على الرمال بدمه.
لِمَ يكون هذا المثال وضعًا فلسفيًا؟ لأنه يبيّن عدم وجود مقياس متعارفٍ عليه، أو نقاشٍ فعليٍّ بين حقّ الدولة والفكر الخلاّق، لا سيما الفكر الأنتولوجيّ الصرف المتجسّد في الرياضيات. في النهاية، السلطة عنف، فيما القيود الوحيدة التي يعترف بها الفكر الخلاّق هي قواعده المتأصّلة الداخلية. وحينما نتأمل قانون فكره، يبقى أرخميدس خارج فعل السلطة. فالصفة الموقتةالمميِّزة للبرهان لا يمكن أن تكون مكمِّلةً للاستدعاءات العاجلة للمنتصرين العسكريين. ولهذا السبب يكون العنف مُنجَزًا، مما يُثبت عدم وجود مقياس متعارفٍ عليه أو كرونولوجيةٍ متعارفٍ عليها بين سلطةِ طرفٍ ما وحقائق الآخر. الحقائق كإبداع. لنتذكّر بسرعةٍ قيام جنديٍّ أميركيٍّ، من دون أن يعرف هوية ضحيته بالطبع، خلال احتلال الجيش الأميركيّ لضواحي فيينا،بقتل أعظم عبقريةٍ موسيقيةٍ في ذلك الزمن، المؤلف الموسيقيّ أنتون فيبِرْن.