You are here

قراءة كتاب الفلسفة في الحاضر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفلسفة في الحاضر

الفلسفة في الحاضر

كتاب " الفلسفة في الحاضر " ، تأليف آلان باديو و سلافوي جيجِكْ

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

مثالي السلبيّ بسيطٌ جدًا. إنه يتعلق بسبب عدم امتلاك الفلاسفة، عمومًا، لأيّ شيءٍ مثير للاهتمام بما يخص الخيارات الانتخابية. لنأخذ الحالة المعتاد للنظام البرلمانيّ النموذجيّ. حينما تواجهك الخيارات الانتخابية في ظل النظام البرلمانيّ النموذجيّ، لا تمتلك، فعليًا، أي معيارٍ لتبرير وشَرْعنة تدخّل الفلسفة. لا أعني بأن على المرء عدم الاهتمام لمثل هذه المواقف. بل أقول، ببساطة، بأن على المرء عدم الاهتمام بها بطريقةٍ فلسفية. إذ حينما يعرض الفيلسوف آراءه بخصوص هذه المسائل، يكون مواطنًا عاديًا، لا أكثر: هو لا يتحدث بمنطق التناغم الفلسفيّ الأصيل. ترى، لِمَ تكون الأشياء على هذا النحو؟ بشكلٍ أساسيّ، لأن الغالبية والمعارضة متناغمان قياسيًا، في النظام البرلمانيّ النموذجي، وفي طريقة عمله الاعتيادية. فمن الواضح بأن ثمة مقياسًا متعارفًا عليه بين الغالبية والمعارضة، مما يعني عدم وجود علاقةٍ مبنيةٍ على المفارقة. توجد اختلافاتٌ، بشكلٍ طبيعيّ، ولكن هذه الاختلافات لا تندرج ضمن مفهوم العلاقة القائمة على المفارقة؛ على العكس، هما يشكّلان علاقةً اعتياديةً محكومةً بالقانون. ومن السهل التقاط هذا: إذ عاجلاً أم آجلاً (هذا ما يُشار إليه بـ «التعاقب الديمقراطي») ستحلّ المعارضة محلّ الغالبية، ومن الضروريّ، حقًا، وجود مقياسٍ متعارفٍ عليه بين الاثنين. فإن لم يكن لديك مقياسٌ متعارفٌ عليه، لن يكون بمقدورك استبدال أحدهما بالآخر. إذًا فالمصطلحان متناغمان قياسيًا، وبقدر تناغمهما لن يكون لديك حالة الاستثناء الراديكاليّ. وكذلك، لن يكون أمامك خيارٌ راديكاليٌّ بمعنى الكلمة: فالقرار هو قرارٌ بين ظلال الفارق، بين اختلافاتٍ ضئيلة – كما تعلمون. فالانتخابات، عمومًا، تُحدَّد من قبل مجموعةٍ صغيرةٍ من المتردّدين، أولئك الذين لا يمتلكون رأيًا مستقرًا، مقرَّرًا سلفًا. فالناس الذين يمتلكون التزامًا فعليًا يشكّلون كتلاً ثابتة؛ ومن ثم يكون لدينا مجموعةٌ صغيرةٌ من الناس فيما يسمّى الوسط، الذين يميلون أحيانًا لطرفٍ ما، وتارةً للطرف الآخر. ويمكنكم فهم لم يكون القرار المتّخذ من قِبل أناسٍ سمتهم الجوهرية هي التردّد قرارًا شديد التميّز؛ فهو ليس قرارًا مُتَّخَذًا من قِبل أناسٍ حازمي الرأي، بل هو قرار اللامُقرّر، أو أولئك الذين لم يقرروا بعد وسيقرّرون لاحقًا لانتهاز فرصةٍ ما، أو في الدقيقة الأخيرة. إذًا، وظيفة الخَيار في جوهريّة رحابته غائبة. فالانتخابات لا تخلق هوّةً، بل هي القاعدة، هي تخلق تجسُّد القاعدة. وأخيرًا، أنت لا تمتلك فرضية حدثٍ صحيح، لا تمتلك شعور الاستثناء، وذلك لكونك في حضرة شعور المؤسسة, في التوظيف الاعتياديّ للمؤسسات. ولكن من الواضح بأن ثمة توترًا جوهريًا بين المؤسسة والاستثناء. إذًا، فمسألة الانتخابات بالنسبة للفيلسوف مسألة رأي نموذجية، أي ليس ثمة ما يربطها باللاتناغم، بالخيار الراديكاليّ، بالمسافة أو الاستثناء. وكظاهرة رأي، إنها لا تشكّل إشارةً لخلق مشاكل جديدة.

يتعلق مثالي الإيجابيّ بضرورة تدخّلٍ قام به الأميركيون في العراق. ففي حالة الحرب الأميركية ضد العراق، وعلى العكس من حالة الانتخابات البرلمانية، كل المعايير موجودةٌ معًا. أولاً، ثمة شيءٌ غير متناغمٍ في أبسط المعاني: بين السلطة الأميركية في جانب، والدولة العراقية في الجانب الآخر، ليس ثمة مقياسٌ متعارفٌ عليه. إنها ليست حالة فرنسا وألمانيا خلال حرب 1914-1918. ففي حرب 1914-1918، كان ثمة مقياسٌ متعارفٌ عليه بين فرنسا وألمانيا، هو بالتحديد ما يتسبّب بحربٍ عالمية. ولكن لم يكن ثمة أي مقياسٍ متعارفٍ عليه بين الولايات المتحدة والعراق. وغياب هذا المقياس هو ما أعطى كل دلالاته إلى بزنس «أسلحة الدمار الشامل» برمّته، لأن البروباغاندا الأميركية والبريطانية، بخصوص أسلحة الدمار الشامل، سعت إلى دفع الناس للتصديق بأن ثمة مقياسًا متعارفًا عليه. فلو كان صدام حسين يمتلك أسلحةً نووية، كيميائية، وبيولوجية أثناء إسقاطه، حينها كان سيكون لديك شيءٌ يُشَرْعِن التدخل، ضمن مقياسٍ متعارفٍ عليه بين السلطة الأميركية والعراق. لم تكن ستواجه حرب عدوانٍ من شديد القوة ضد شديد الضعف، ولكنَّدفاعًا شرعيًّا ضد خطرٍ قابلٍ للقياس. وحقيقة عدم وجود أسلحة دمارٍ شامل يوضح بشدةٍ ما كان الجميع يعرفونه أصلاً: بأن في هذه المسألة، لم يكن ثمة مقياسٌ متعارفٌ عليه. ثانيًا، لديك الحاجة القصوى لخَيار. وهذا هو شكل الوضع الذي لا يتوضّح فيه كيف يمكن لشخصٍ أن يكون شيئًا آخر بعيدًا عن دعم أو رفض الحرب. هذا الإرغام على الاختيار هو ما ساهم بتوسيع رقعة وانتشارالتظاهراتوالتحركات ضد الحرب.ثالثًا، أنت تمتلك مسافةً عن السلطة: خلقت التظاهرات الشعبية ضد الحرب هوةً ذاتيةً مهمةً بما يخص سلطة الهيمنة للولايات المتحدة. وأخيرًا، لعلّ أمامك بداية وضعٍ جديدٍ يتحدد، من بين عوامل أخرى، بأهمية هذه التظاهرات، ولكن، أيضًا، باحتمالاتٍ جديدةٍ لفهمٍ وفعلٍ مشتركٍ بين فرنسا وألمانيا.

وأخيرًا، بما يتعلق بالأحداث الجارية، ينبغي أن تسأل قبل أي شيءٍ آخر: «هل هناك علاقةٌ ليست علاقة؟ هل ثمة عناصر غير متناغمة؟». لو كانت الإجابة بالإيجاب، ينبغي أن تحدّد العواقب: ثمة خَيار، ثمة مسافة، وثمة استثناء. واستنادًا إلى هذه الأسس، يمكنك العبور من مجال الإبداء الصرف للرأي إلى الوضع الفلسفيّ. وضمن هذه الشروط، بإمكانك إعطاء معنى للالتزام الفلسفيّ. ويخلق هذا الالتزام اقتناعه الذاتيّ في حقل الفلسفة، مستفيدًا من المعايير الفلسفية.

أشدّد على فرديّة الالتزام الفلسفيّ. وينبغي علينا التفريق بشكلٍ واضحٍ بين الفلسفة والسياسة. ثمة التزاماتٌ سياسيةٌ تنيرها الفلسفة، أو حتى قد تكون الفلسفة سببًا في ضرورتها، ولكن الفلسفة والسياسة متمايزتان. فالسياسة تهدف إلى تحويل الأوضاع الجمعية، فيما تسعى الفلسفة إلى طرح مشكلاتٍ جديدة للجميع. ويقوم هذا الطرح، المتعلّق بمشكلاتٍ فلسفيةٍ جديدة، بصياغة شكلٍ مختلفٍ كليًا من الحكم، عن ذاك المتعلق بالنضال السياسيّ المباشر.

بالطبع، يمكن للفلسفة العمل على أساس الإشارات السياسية، إذ بمقدورها صياغة مشاكل باستخدام إشاراتٍ سياسية. ولكن هذا لا يعني بأن من الجائز خلطها مع السياسة بحدّ ذاتها. هذا يعني أن بإمكاننا، بسهولةٍ متناهية، التصور بأنه، وفي لحظةٍ ما، يمكن أن تكون لظروفٍ معينةٍأهميةٌبالنسبة للسياسة، ولكن ليس للفلسفة، والعكس صحيح. ولهذا، قد يبدو الالتزام الفلسفيّ شديد الغموض أحيانًا، بل وغير قابلٍ للاستيعاب. فالالتزام الفلسفيّ الأصيل – ذاك المنغمس في اللاتناغم، والذي يستدعي خيار الفكر، يمهّد للاستثناءات، يخلق المسافات، وينأى، بشكلٍ خاص، عن أشكال السلطة – غالبًا ما يكون التزامًا غريبًا.

ثمة نصٌّ مثيرٌ للاهتمام لأفلاطون حول هذه النقطة، نصٌ يمكنك أن تجده في نهاية الكتاب التاسع من الجمهورية. في الجمهورية، كما تعلمون، يرسم أفلاطون ملامح نوعٍ من اليوتوبيا السياسية. وبذا يمكن للمرء أن يفكّر تحديدًا بأن الفلسفة والسياسة في هذا الكتاب متقاربتان جدًا. في نهاية الكتاب التاسع، يخطب سقراط ببعض الشباب، كالمعتاد، فيقول بعضهم له: «هذه القصة رائعةٌ جدًا، ولكن لن تتحقق في أي مكان». إن نقد اليوتوبيا كان حاضرًا منذ تلك اللحظة. لذا يقولون له: «لن توجد جمهوريتك في أي مكان». ويجيب سقراط: «في كل الأحوال، لعلها ستوجد في مكانٍ ما غير بلادنا». بمعنى آخر، هو يقول بأنها ستحدث خارج البلاد، وسيكون ثمة شيءٌ أجنبيُّ وغريبٌ فيها. أعتقد بأن من المهم أن نفهم الآتي: يقوم الالتزام الفلسفيّ الأصيل، في أوضاعٍ ما، بخلق أَجْنَبة. في الحالة العامة، هي تكون أجنبية. وحين تكون عموميةً ببساطة، حينما لا تمتلك تلك الأَجْنَبة، حينما لا تكون مغمورةً بهذه المفارقة، ستكون حينئذٍ التزامًا سياسيًا، التزامًا أيديولوجيًا، التزام مواطن، ولكنه ليس التزامًا فلسفيًا بالضرورة. فالالتزام الفلسفيّ يتحدّد بأَجْنَبته الداخلية.

هذا يدفعني للتفكير بقصيدة أحبها جدًا، قصيدة للشاعر الفرنسيّ سان جون بيرس، ملحمةٌ عظيمةٌ عنوانها أناباز. في هذه القصيدة، ومع نهاية القسم الخامس، تجدون السطور الآتية، التي أود قراءتها لكم: «الغريب، متسربلٌ بأفكاره الجديدة, يكتسب المزيد من الحِرابفي طرق الصمت». هذا تعريفٌ للالتزام الفلسفيّ. فالفيلسوف غريبٌ دومًا، يرتدي أفكاره الجديدة. وهذا يعني بأنه يطرح أفكارًا جديدةً ومشاكل جديدة. وهو يكتسب المزيد من الحراب، في طرق الصمت. هذا يعني بأنه قادرٌ على جذب عددٍ كبيرٍ من الناس إلى هذه المشكلات الجديدة، لأنه أقنعهم بأن هذه المشكلات كونية. والأمر المهم هو أن أولئك الذين يخاطبهم الفيلسوف مقتنعون، بدايةً، من خلال صمت الاقتناع وليس عبر بلاغة الخطاب.

Pages