كتاب " المدارس التاريخية الحديثة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب المدارس التاريخية الحديثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقــدمــة
تُعْنَى هذه الدراسة بتطور علم التاريخ (مبادؤه وأسسه وأهدافه وحدوده) في العالم الغَربي منذ عصر النهضة إلى بدايات القرن الواحد والعشرين. وطابع هذه الدراسة المكثف نسبيّا جعلها انتقائية، إذ العديد من المعطيات وقع التعرض لها بطريقة سريعة لأن قصدي ليس الشمولية والإلمام الكامل، وإنّما تمكين المهتم بعلم التاريخ من «حدِّ أدنى مضمون» (SMIG) أي من حصيلة معقولة تشمل أهم المحطات في تاريخ مفهوم التاريخ على امتداد أكثر من ستة قرون. وتغطي هذه الدراسة الجوانب «الهستوريوغرافية (HISTORIOGRAPHIE) والابستمولوجية (ÉPISTÉMOLOGIE) والفلسفية لعلم التاريخ (PHILOSOPHIE DE L’HISTOIRE).
لقد تبنيتُ المعيار الكرونولوجي في هذه الدراسة، وبدأتُ بـ«إنسانويّة» عصر النهضة الأوربيّة إلى أن بلغتُ عصر «العولمة» و«ما بعد الحداثة» في أيامنا هذه، علمًا بأنّ علم التّاريخ لم يولد حقيقة إلاّ في القرن التاسع عشر حيث وقعت بداية من هذا التّاريخ «مأسسة» (INSTITUTIONNALISATION) هذا العلم، أي بعث أقسام تاريخ في الجامعات ومجلّات متخصصة وجمعيّات عالِمة تُعنى بعلم التّاريخ، وهذه «المأسسة» ناتجة عن الثورة الفرنسيّة (1789) التي جاءت بفكرة مفادها أن التحوّلات المجتمعية أمر ضروري وحتميّ وعادي، لذلك نشأ علم التّاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى لدراسة هذه التحوّلات وللتّحكّم فيها.
ولقد اخترتُ الوظيفة لا الاسم، وارتأيتُ القيام بعملية «تنميط» للمؤرخين خلال هذه الحقيقة الطويلة، فاكتشفت وجود أحد عشر نمطا.
وقد حاولت بالنسبة إلى كل صنف من هؤلاء المؤرخين تبيان الإطار التاريخي العام الذي ظهر فيه، والمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها، وإضافاته ومواطن قصوره.
والمؤرخون الذين أشرتُ إليهم في متن هذا التأليف ليسوا كلهم مؤرخين بالمعنى الضيق للكلمة، وإنما كانوا متخصصين في مجالات فكريّة متعددّة، ومن بينها التاريخ. وقد تطلب التعريف بكل صنف من هؤلاء المؤرخين اللجوء إلى مفاهيم من علوم إنسانية غير التاريخ، وخاصة من الفلسفة ، ولا مراء في أن الفلاسفة قدموا إضافات عظيمة لعلم التاريخ، لكن هذا التأليف لم يتحول – رغم بعده الابستمولوجي والفلسفي- إلى تاريخٍ للفلسفة مع كثرة المعطيات الفلسفية الواردة فيه.
لقد بدأ التفكير التاريخي منذ فجر الإنسانية بمضامين دينية ازدادت تعمقا مع ظهور الأديان التوحيديّة الكبرى، ثم أصبح التفكير التاريخي سياسيّا مع الإغريق والرومان، وبعد خسوف دام قرابة الألف سنة (باستثناء وميض لم يدم طويلاً جاء به العربي المسلم التونسي عبد الرحمان بن خلدون) تصالح التفكير التاريخي مع السياسة، وأصبح الإنسان – لا الله فقط- محور التفكير التاريخي بداية من عصر النهضة في العالم الغَربي، وقد تشظى هذا المضمون السياسي للتفكير التاريخي في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى ما لا يحصى من الحساسيّات والمشارب المختلفة.
لقد ازدهر علم التاريخ في العالم الغَربي لأن الوعي الأوروبي تكون تدريجيا في التاريخ، ولم توجد ماهية مسبقة كما هو الحال في الإسلام (الوحي)، وللوعي الأوروبي – والتاريخ جزء منه- أربعة مصادر: المصدر الشرقي القديم، المصدر اليوناني- الروماني (مصدران علمانيّان) والمصدر اليهودي – المسيحي (المصدر الديني) والبيئة الغَربيّة الأوروبيّة.
إن بعض أصناف المؤرخين الذين تعرضتُ لهم في هذا التأليف لم يعد لهم وجود بارز في عالم اليوم (مثل المؤرخ الرومنطيقي) وهذا ما يفسّر أن أجزاء هذه الدراسة ليست متعادلة الوزن، لكني حرصت مع ذلك على عدم إهمال هؤلاء المؤرخين لأنهم جزءٌ لا يتجزأ من تاريخ التاريخ (الهستوريوغرافيا) ولأن بعض طرق تفكيرهم وأشكال كتاباتهم، نلمس اليوم بصماتها لدى بعض المؤرخين الذين يُمارسونها بلا وعي أحيانًا.
إنّني عندما أستعرض مواصفات صنف من المؤرخين في عصر معيّن، فإنّ ذلك لا يعني أنّ كلّ تلك المواصفات متوفّرة لدى كل المؤرّخين الذين ينتمون إلى المدرسة التّاريخيّة لذلك المؤرّخ. فالتّنوّع أحيانًا داخل نفس المدرسة لا حدّ له، إلاّ أنّني فضّلت – ومن باب تقريب الحقائق إلى الأذهان- أن أستخدم مفهوم «الأنموذج المثاليّ» لـ«ماكس فيبر» (MAX WEBER). لقد رسمتُ صورة «خالصة» لمؤرّخ كلّ مدرسة بإيجابيّاته وسلبيّاته، وهو مؤرّخ لم يوجد قطّ بمثل تلك المواصفات على ارض الواقع، وإنما المؤرّخ الذي وُجِدَ، هو مؤرّخ يحمل الكثير من تلك المواصفات لا كلّها. لقد فَضَّلْتُ الوظيفة لا الاسم، انطلاقا من إيماني بأنّ الحضارة ليست في نهاية التّحليل سوى مجموعة من الوظائف التي تؤدي إلى التّراكم المعرفيّ والتّقدّم، فعوَض الحديث من باب المثال عن «اسم» «ماركس» المؤرّخ، خيّرنَا الحديث عن «وظيفة» المؤرخ الماركسي.
إن الجانب الهستوريوغرافي لهذه الدراسة ليس من صنف دراسة التاريخ الفكري أو دراسة تاريخ الأفكار، وهي الدراسات التقليدية المعروفة، وإنما هي نوع من سُوسيولوجية مهنة التاريخ والأدوار المختلفة التي أُوكلت لعلم التاريخ، وذلك منذ عصر النهضة إلى اليوم في العالم الغَربي، وقد حاولتُ كذلك تبسيط فلسفات التاريخ التي ظهرت خلال هذه الحقبة الزمنية رغم صعوبة ذلك التبسيط.