كتاب " المدارس التاريخية الحديثة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب المدارس التاريخية الحديثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
«وُلد علم التاريخ والعلوم الاجتماعيّة كما نفهمها اليوم، في القرن التاسع عشر، وهذا لا يعني أنه لم يُكتب في هذا المجال قبل القرن التاسع عشر شيءٌ مفيدٌ أو يمكن استعماله اليوم. إننا لا ندّعي هذا أبدًا، وإنما نقصد أن الشروط المؤاتية لمأسسة (INSTITUTIONNALISATION) هذا النوع من النشاط الفكري لم تتوفر قبل القرن التاسع عشر، وغياب هذه المَأْسَسَة ناجم بكل بساطة وبصفة مباشرة عن الأمر المتمثل في عدم وجود كليات أو جمعيّات عالمة أو مجلات متخصصة تكون إطارًا يقع فيه شرح تلك المعارف ومناقشتها وإذاعتها. أما سبب المأسسة التي فَرضت نفسها لاحقا، فهو سبب معروف: إنه التحول الإيديولوجي الذي جَسَّدته الثورة الفرنسية (1789) وإن ذهنية عالمنا الحديث لَمَدِينَةٌ لهذا الإرث الفكري الأساسي وغير القابل ربّما للارتكاس، وهو المفهوم الذي يقول إن التغيير الاجتماعي أمر «عادي». إن عمق هذا الزلزال الإيديولوجي راجعٌ حسب اعتقادي إلى ذلك الأمر الجديد المتمثل في ظهور اتجاه محافظ وواع ناجم عن الرغبة في تفنيد ذلك المفهوم، إلا أن المحافظين فشلوا في هذه المهمّة.
لقد اقتنع العالم الحديث إيديولوجيا بالطابع العادي للتغيير، لذلك أصبح من الضروري أو بالأحرى من المستعجل، دراسة هذا الأمر حتى يكون بالإمكان التحكم فيه. من هنا برز علم التاريخ والعلوم الاجتماعيّة، والجميع على علم بتطور هذه العلوم على المستوى الفكري والتنظيمي، وقد ظهرت كذلك جملة من المواد المعرفية (DISCIPLINES) أو هكذا كانت تعرف نفسها، ومن الطبيعي أن يقع اقتراح تسميات ومقاييس مختلفة لِعَنْونَة هذه المواد والتمييز بينها، وفي الخمسينات (من القرن العشرين) عندما بدأت الأمور تَتضح، أصبحت دراسة الصّيرورات الاجتماعية تضم خمسة «فروع» مُعترف بها، وهي: الانتروبولوجيا، الاقتصاد، العلم السياسي وعلم الاجتماع، أما الفرع السادس فهو الجغرافيا وهي الابن البائس، كميّا بطبيعة الحال. ونُشير إجمالا هنا إلى أن هذه التسميات هي نفسها تسميات الأقسام الجامعيّة (وتبعًا لذلك للدكتورات المسلّمة) وكذلك الجمعيّات والمؤتمرات القوميّة والعالمية والمجلات المتخصصة. ونفس هذا الوضع قائم الآن في كل الأماكن تقريبا، لكن الأمر لم يكن كذلك عام 1950، لكنه أصبح واضح المعالم بعد ذلك التاريخ. إننا نعلم كذلك جيّدا نَسق المقولات القاعدية الذي أنتج هذا التقسيم إلى خمسة فروع، فتصنيف دراسة العالم الغَربي المعاصر إلى اقتصاد وعلم سياسي وعلم اجتماع، يعكس ذلك التصوّر الماقبلي الأساسي الذي يَهُم مسرح النشاط البشري الجماعي، ويشمل ثلاثة ميادين – أو ثلاثة مستويات مختلفة- : ما يهم الاقتصاد (أو السّوق) وما يهم الدولة (أو الكيان السياسي) وما يهم المجتمع (أو الثقافة)، وبما أن المتخصصين في هذه الميادين الدراسيّة الثلاثة – التي اعتُبرت متعلقة بصيرورات لا زمنية – يهتمون عمليا وبصفة رئيسيّة بالصيرورات الحالية (أو الحديثة)، فإن الضرورة فرضت وجود ميدان متميز هو التاريخ، أي ميدان دراسة الأحداث الماضية، وبما أن الميادين الأربعة تقتصر في الواقع على دراسة العالم المتحضر أو الحديث، فإن الأنتروبولوجيا وجّهت اهتمامها لدراسة العالم «الآخر» (لنلاحظ هنا أن الاستشراق دَرَسَ الحضارات الكبرى غَير الغَربيّة).
لقد أنتجت كل مادة معرفية كما هو معلوم طريقتها في تجميع المعطيات، وهي طريقة أصبحت ملازمةً لها، وأصبحت في نظر عدد من المتخصصين من نفس جوهر المادة المعرفية نفسها (خاصة بعد 1945 مع تطور الاهتمامات المنهجية)، وهذه الطريقة هي: الملاحظة القائمة على المشاركة بالنسبة إلى الأنتروبولوجيا، والاقتصاد الاحصائي بالنسبة إلى الاقتصاد، ودراسة الوثائق الأرشيفية بالنسبة إلى التاريخ والتحقيقات الميدانية بالنسبة إلى علم الاجتماع.
والمعلوم أيضا أن المنهجيّة الأساسيّة بالنسبة إلى هذا النشاط الفكري قد أفرزت حوارا واسع النطاق حول التمييز بين «الإيديوغرافي» (L’IDÉOGRAPHIQUE) و«النُّومُوتِيتِيك» (NOMOTHÉTIQUE)، فالاقتصاديون والمتخصصون في العلم السياسي وعلماء الاجتماع، اعتنقوا أساسًا وفي غالبيّتهم السّاحقة، «النُّومُوتِيتِيك» مؤكدين على علميّة تمشيهم الذي اعتبروه بحثا عن القوانين الكونية، أما المؤرخون، فقد خيّر أغلبهم الجانب «الايديوغرافي»، مؤكدين على مركزية السّرد في نشاطهم، وقد رفض كثيرون اعتبار التاريخ «علمًا اجتماعيّا» وفضلوا اعتباره مادة معرفية «إنسانويّة» (HUMANISTE)، أما أكثر المتخصصين ازدواجيّة، فهم بلا شك مجموع الأنتروبولوجيين، وقد رَاح بعضهم يزاوج بين الادعاءات «النُّومُوتِيتِيكية» والممارسة «الإيديوغرافية».
لقد تنوعت ردود فعل المدارس الإيديولوجيّة الكبرى للقرن التاسع عشر: مدرسة المحافظين ومدرسة الليبراليين ومدرسة الماركسيّين إزاء هذا التجديد المتمثل في الدراسة المنتظمة في الإطار الجامعي للسلوك الاجتماعي البشري. وقد حشرت هذه الممارسة المحافظين في وضعيّة شبه حرجة بسبب الخلفيات الضمنية المتأتية من فلسفة الأنوار، فهم ينزعون إلى رفض مشروعيّة التمشي، ويتحصَّنُون غالبا إما وراء موقف: إيديوغرافي، متطرف، رافضين أية إمكانية تعميم مقبولة («التاريخ يعيد نفسه») أو وراء موقف «نُومُوتيتيكي» متطرف «مختزلين» القوانين التي تتحكم في الكيان الاجتماعي إلى ظواهر أكثر أهمية من السلوك الاجتماعي في نظرهم وهي البيولوجيا أو حتى العلوم الفيزيائية، وفي كلتا الحالتين، هناك نفي لفكرة أن يكون السلوك الاجتماعي محددًا اجتماعيّا ويُمكن التحكم فيه.