كتاب " المدارس التاريخية الحديثة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب المدارس التاريخية الحديثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لقد كتب الشاعر معروف الرصافي (1875 -1945) في قصيدته «ضلال التاريخ»:
وما كتُب التاريخ في كل مــا
روت لقرائها إِلا حديثٌ ملفــــق
نظرنا لأَمر الحاضرين فَرَابَنَـا
فكيف بِأمر الغابرين نُصــــدّق
إِن موقفا متطرفا مثل هذا لاَ ينطوي على أية مصداقية، لكن دَعْنَا نطرح الأسئلة الجديّة: هل بإمكان الإنسان أن يكون مادةً للمعرفة التاريخية (OBJET) وفاعلاً (SUJET) لهذه المعرفة، أي هل بإمكان الإنسان أن يدرس أخاه الإنسان دراسة غير منحازة، أو بتعبير آخر: هل بلوغ الحقيقة ممكنٌ عندما يكون موضوع الدراسة من نفس طبيعة الدارس، خلافا للعلوم الطبيعيّة حيث الدّارس والمدروس من طبيعتين مختلفتين؟ وهل ثمة موضوع أصعب من دراسة الإنسان للإنسان ذلك «الذي حارت البَريَّةُ فيه» كما قال أبو العلاء المعرّي أو كما ورد في القرآن «وكان الإنسان أكثر شيئا جَدلاً» (الكهف 53)؟ أليس الفَضلُ بين البعد الإيديولوجي والبعد العلمي صعبًا جدّا في علم التاريخ نظرا إلى أن التاريخ هو دراسة الإنسان للإنسان؟ ثم ما المقصود بالعلم الذي نطالب المؤرخ بأن يتوخاه عند دراسته للماضي؟ هل هو العلم كما يفهمه علماء الطبيعة وهو العلم المتمثل في «التفسير» (EXPLICATION) أي في تحديد القوانين الحتمية والموضوعية التي تسيّر الكون؟ لا ننسى في هذا الصّدد ما يقُولُه العلماء من أنه لا يُوجد تفسيرٌ شامل وكامل ونهائي حتى للظواهر الطبيعية، أو ما يقوله الفيلسوف كارل بوبر (1902 – 1995) من أن أية حقيقة علميّة ليست حقيقة لأن التجربة أثبتتها، وإنما هي حقيقة لأننا لم نتوصل بعدُ إلى إثبات عكسها.
هل المقصود بالعلم في التاريخ هو مجرد «فهم» (COMPRÉHENSION) سلوك الإنسان ونَواياه ومقاصده، وبالتالي لا يحتاج المؤرخ هنا في مقاربته للماضي إلى مفهوم العلية (CAUSALITÉ) والحتميّة (DÉTERMINISME)، لكن المشكلة هنا هي إِنسان ما قبل التاريخ: كيف نَدرُسُه، وقد ترك لنا مخلفات «صامتة» (عظام بشريّة ، ملابس جلديّة، قطع فخار، كهوف، أسلحة حجريّة...) لا يمكن التعامل معها بمفهوم الوعي أو القصد.
هل علم التاريخ هو علم مثل علوم الطبيعة له هو أيضا قوانينه الموضوعية؟ أم هو مَزيجٌ معقد من التفسير ومن الفهم؟ أم هو شبيه بالأدب بسبب علاقته الضرورية بالكتابة وبالسّرد وبالتأويل؟ أم هو فن من فنون اللغة، وربّما أول الفنون الشعريّة؟ فالتاريخ لدى اليونانيين له عروسه (MUSE) وهي: كليو (CLIO) والحاملة لِبُوق (رمز الشهرة) ولسَاعَةٍ مائية (لاحتساب الوقت المنقضي) ولِلُفَافة (للترويح على الآلهة عن طريق التغني ببطولاَتهم وبمنَاقبهم)