كتاب " المدارس التاريخية الحديثة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب المدارس التاريخية الحديثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كْلِيـو (عروس علم التاريخ)
لقد انشغل المؤرخون منذ القديم بمعضلة «علمويّة» التاريخ، خاصة وقد بدا لهم أن كُلَّ حدث في التاريخ هو وَاحدٌ (UNIQUE)، أي أنه لا يحدث إِلا مرة واحدةً ولا يتكرر، وهو كذلك فريدٌ (SINGULIER) أي أنه يحمل مواصفات لاَ نجدها في أي حدث آخر مشابه له؟ إِذن لا شيء يتكرر في التاريخ الإنساني، والمؤرخ ليس بإمكانه القيام بأيّة تجربة على غرار زميله الفيزيائي أو الكيميائي، كما أن المؤرخين قد يتفقون في ما بينهم على أن أحداثًا معينة وقعت فعلاً في الماضي، لكنهم لاَ يتفقون حول أسبابها وأهميّة كل سبب، فَهَبْ أنَّ شخصا سقط عليه حجر، فسال دَمُه، فالسبب الواضح هو الحجر، لكن يوجد سبب غير مرئي هو قانون الجاذبية، ثم ألا توجد أسباب هي نفسها نتائج لأسباب أخرى؟ لنأخذ مثالاً آخر: كيفية تحقيب الماضي، فهناك من المؤرخين من حَقَّبه اعتمادًا على تعاقب الحضارات، وهناك من حقَّبه اعتمادًا على تعاقب السلالات الحاكمة، وهناك من حقّبه اعتمادًا على تعاقب أدوات الإنتاج (العصر الحجري، العصر البرونزي، العصر الحديدي...) وهناك من حقّبه اعتمادًا على الثورات التقنية الكبرى (عصر الفلاحة، عصر الصناعة ثم عصر الإعلاميّة) وهناك من حقّبه اعتمادًا على تعاقب أنماط الإنتاج (نمط الشيوعية البدائية، النمط العبودي، النمط الفيودالي، النمط الرأسمالي، النمط الاشتراكي) وهناك من حقّبه اعتمادًا على تعاقب أشكال التنظيم الاجتماعي (عصر الصّيد والالتقاط والبداوة، عصر البربريّة، عصر الحضارة)، وهناك من حقّبه اعتمادًا على معيار الانتقال من عصر سلطة الأم إلى عصر سلطة الأب، وهناك من حقّبه اعتمادًا على أنماط التفكير الفلسفي (عصر السّحر والأوثان، عصر الماورائيات، العصر الوضعي) وهناك من حقّبه اعتمادًا على مقولة التحقق التدريجي للعقل المطلق في التاريخ والمتمثل في تطور الوعي بالحريّة (الفيلسوف هيغل)، إلخ...
وحتى ولو اتّفق المؤرخون على مضامين أحداث معينة وعلى نتائجها، فهم ليسوا قادرين على التنبؤ بالمستقبل خلافا لصنفٍ معين من علماء الطبيعة مثل علماء الفلك على سبيل المثال الذين بإمكانهم تحديد كسوف الشمس تحديدًا دقيقا للغاية، وذلك قبل وقوعه بمدّة طويلة جدّا.
هل بإمكان المؤرخ تطبيق المقولة الكلاسيكيّة الشهيرة الدّاعية إلى أن يكون متجردًا من انتمائه الإيديولوجي والسياسي والطبقي والجهوي والقومي... لكي يكون بإمكانه اكتشاف الماضي كما وقع؟ إن الفرق بين المبدإ الجميل هذا والتطبيق شاسع، وقد أثبتت التجارب أن عددًا لاَ يستهان به من المؤرخين – رغم نَواياهم الحسَنة- عجزوا كل العجز عن الانسلاخ عن انتمائهم الزماني والمكاني، وقامُوا بدون أن يشعروا بإسقاط أفكار حاضرهم على الماضي، فأغلب المؤرخين الفرنسيّين يعتبرون نابليون بطلاً تقدميّا، بينما يعتبره الأسبان غازيًا سفاحا (انظر لوحة الرسّام غُويا (GOYA) الشهيرة عن المقاومة الإسبانية لنابليون)، وهناك صنف من المؤرخين اخترعوا مفهوم «الهولوكست»، ورغم فظاعة المذابح التي تعرض لها اليهود، إلا أن المؤرخين الصهاينة ضخموا كثيرا من عدد ضحايا «المحرقة» بهدف استدرار عطف العالم والسيطرة على أكثر ما يمكن من الأراضي الفلسطينية.
نمر الآن إلى المؤرخ الذي يريد أن يدرس تاريخ الزمن الحاضر، وله ما له من ذلك الكم الهائل من الوثائق والإحصائيات والمعلومات والصور والاستجوابات التي بإمكانه إجراءها مع الفاعلين التاريخيّين الذين قد يكون الكثير منهم لا يزالون على قيد الحياة، فهل بإمكانه بلوغ الموضوعية؟ اليس مهدّدًا بأن يتصرف كما يتصرف الصحفي؟ ألا يفتقد حسب قناعة راسخة إلى ما هو ضروري لأي مؤرخ، وهو مسافة زمنية معيّنة بينه وبين الأحداث، وهي الشرط اللازم لكي يكون له الحدّ الأدنى من الرصانة والصفاء الذهني، علمًا بأن أي حدث لا يمكن لمعاصريه فهمه فهمًا جيّدا كما قد يُتصور، وإنما الذين يفهمونه بصورة أفضل هم اللاحقون. إِننا نعرف اليوم الاسكندر المقدوني أو نابليون أو بورقيبة أفضل من أولئك الذين عاصروهم.
نتساءل الآن: ما قيمة مناهج البحث التي يلجأُ إليها المؤرخ؟ (نظريات المعرفة مثل الوضعية أو الماركسيّة أو الفرويدية... تقنيات البحث المتعلقة بتجميع المعلومات وباستجواب المتقدمين في السنّ وبطرح الفرضيات وبالاستقراء وبالمقارنة وبالاستنتاج وباختراع المفاهيم...
ماذا تمثل التقنيات الجديدة مثل الحاسوب بالنسبة إلى المؤرخ؟
أليست كل هذه المناهج والتقنيات شرطا ضروريّا، لكنه غير كاف لِبلوغ الحقيقة؟ أليس المؤرخ مثل البحّار الذي يهتدي بالبوصلة، لكن البوصلة لا تكفي، ولا بدّ له من حدسٍ وذكاء، ليبلغ مراده، فالذي اكتشف «العالم الجديد» هو كريستوف كولمب وليس البوصلة رغم أنها ساعدته بلا شك في مغامرته العظيمة.