You are here

قراءة كتاب المدارس التاريخية الحديثة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المدارس التاريخية الحديثة

المدارس التاريخية الحديثة

كتاب " المدارس التاريخية الحديثة " ، تأليف د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

أليس علم التاريخ هو علم الوصول إلى حقائق جزئية لا غير؟ تمامًا مثل المصور الفوتوغرافي الذي يصوّر مشهدًا من فوق، فتكون صورته صحيحة لكنها لا تعكس كل الواقع، كما أنه عندما يصوّر نفس المشهد من زاوية أخرى تكون صورته صحيحةً أيضا، لكنها لا تعكس كل الواقع، لكن لكي تكون كل صورة صحيحةً ومهما كانت الزاوية التي يلتقط منها تلك الصّور، لا بدّ أن تكون آلته الفُوتوغرافية سليمةً وأن تتوفر له البراعة المهنيّة، وهذا هو المطلوب من المؤرخ، ورغم ذلك، يظل طموح هذا المؤرخ هو الإلمام بأكثر ما يمكن من جوانب الواقع، ولم لا الواقع كله، تمامًا مثلما فعل الرسام بيكاسّو في «سيّدات آفينيون» (1907): لقد قلب رأسًا على عقب قواعد الرسم المنظور كما هي معروفة منذ عصر النهضة، فالشيء لم يعد يُرسم كما تراه العين، وإنما كما يراه العقل، وهذا ما تصبو إليه المدرسة التكعيبية في الرسم، أي تصوير الشيء كما لو كان الإنسانُ يدور من حوله، أي إبراز مختلف وُجُوهه في نفس الوقت. إنه من الصواب القول على غرار أبي العلاء المعرّي:

أما اليقينُ، فلا يقينَ وإنما

أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسَا

إن بلوغ الحقيقة التاريخية الكاملة ممكن رغم كل شيء، لكن إذا كانت «علمويّة» التاريخ محفوفة بكل هذه الصعوبات، فَما الفائدة إِذن من تعاطي هذا النشاط الفكري؟ هل صحيح قولُ الشاعر:

ليــس بإنســـان وَلاَ عاقـــــلٍ من لا يعي التاريخ في صـدره

ومن وعي أحوال من قد مضـى أضــاف أعمـارًا إلى عمـــره

لماذا يتعلق الناس بالتاريخ؟ هذا هو السؤال الثالث الذي ما انفك يخامر المؤرخين والمفكرين منذ القديم إلى اليوم. لقد خاض المؤرخون وغيرهم في هذا السؤال وقالوا فيه شتى الأقوال. إن كل الشعوب شغوفة بالتاريخ، وذلك يعني أن الحياة بحاجة إلى مثل هذا النشاط الفكري.

إن الإنسان – وخلافا للحيوان- يتميّز بِتَاريخيَّتِهِ (HISTORICITE) أي بوعيه بالتاريخ، ثم ألا يعود تعلق الإنسان بالماضي لأن دراسة هذا الماضي تنير الحاضر وتستشرف المستقبل؟ إن الإنسان يرث من الأجيال السّابقة مكتسبات حضاريّة معينة كما أنه ينطلق دائما من القديم والسائد لابتكار الجديد ولاستنباط الطارف والبديع من التالد والموروث، والماضي حافل بنجاحات الإنسان وبإخفاقاته، لكن ماذا تعني الاستفادة من الماضي؟ إنها لا تعني أن ذلك الماضي سيتكرر، فالتاريخ لا يُعيد نفسه، ولا تعني أن الحلول التي جُرّبت في الماضي وصحَتْ، يمكن اللجوء إليها في الحاضر إزَاء مشاكل شبيهة بمشاكل الماضي. إن من وظائف التاريخ أنه يوفر للإنسان في أوقات الشدّة دواعي الاعتزاز والفخر ويفتح للعقول في ساعات الضيق فُسحة الأمل، فالرجوع للماضي يوفر للإنسان نماذج بشرية تكون بمثابة القدوة فيحاول النسج على منوالها واستلهام الشجاعة منها وتربية إرادته لمقاومة مصاعب الحياة الحاضرة، كما أن الماضي مليء بالمآسي التي تجعله يسعى لكي لا تتكرر مآسٍ شبيهة بها. إن التاريخ يتحول هنا إلى أداة تمكن الإنسان من العيش أحسن مما عاش أسلافه، فيصبح بمثابة عامل القوة والدفع والحافز،

وإذا فاتك التفاتٌ إلى الماضي فقد غاب عنك وجه التآســي

كما قال أحمد شوقي.

Pages