كتاب " فيو ضواحي الذات"، إذا كان هذا الكتاب هو الأول في سيرة الكاتب الأدبية، فهو ليس كذلك في سيرته المهنية، إذ سبق له أن ألف كتبًا في مجال التربية، وحتى عندما قرأتُ هذه المؤلفات لمستُ فيها تلك المسحة الجمالية التي تخفف إلى حد كبير من وطأة الرياضيات وجمودها،
أنت هنا
قراءة كتاب في ضواحي الذات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
لذاذة السرد وغبطة القراءة
«مشهور البطران..كاتب فلسطيني»
استهلال شخصي جدًّا:
إن ما أكتبه هنا والآن هو كلام عن كاتب ربطتني به علاقة صداقة، يتقاطع على تخومها وإحداثياتها ما هو اجتماعي وأدبي ومهني، وعليه فإنني لا أدعي أن ما أكتبه هو دراسة نقدية تنهض على المعايير الأكاديمية للنقد، هذا إن وجدت هذه المعايير أصلا! وهذا إن اعترفت بهذه المعايير، ومن وجهة نظر شخصية جدا أقول إن ثمة معيارًا واحدًا للنص الجيد، هو مدى ما يتركه من غبطة القراءة لدى المتلقي، وقد وجدتها هنا.
إذًا، أؤكد أن كتابتي هي انطباعات وتأملات ذاتية حول نصوص أراها قريبة إلى ذائقتي، ومحببة إلى قلبي، فهذا النوع من النصوص التأملية يرفع من درجة حساسيتي تجاه الطبيعة وممكناتها الجمالية، ولطالما نبهتني هذه النصوص- وكذا كاتبها- إلى ضرورة إتقان لغة الأشجار، والرجوع إلى قاموس الطبيعة، ومعرفة مفردات البحر، خاصة وان الكتابات في هذا المضمار ضمن المشهد الثقافي الفلسطيني قليلة، هذا إن لم تكن نادرة.
لقد عايشت هذا الصديق عن قرب، ومع هذه المعايشة عشت أيضا نصوصه، وهي أفكار في طور الاختمار، إلى أن غدت نصوصا ترى النور لأول مرة.
لم تبقَ زاوية في مقاهي رام الله إلا وشهدت نقاشا حول فكرة أو موضوع من هذا الكتاب. كنا نتحاور دائما، نأتلف حينا ونختلف أحيانا، وكانت هذه الحوارات الشاقة مفيدة لي وله وللنصوص معا، فبالنسبة لي وله، أفادتنا في أننا التقينا في منطقة وسطى تجمع ما بين واقعيتي ورمزيته، اسميها الآن تخوم الحلم، حيث عينٌ على الواقع وأخرى وراءه.
هل يجدر بالأدب أن يصور الواقع كما هو؟ هل تجاوُز الواقع يُسْقِطُ الأدب في دائرة الوهم ويطوحه بعيدا عن غاياته؟ وما هي غاية الأدب؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها مثار جدل بيننا على الدوام، وكانت تنبثق على ضوء ما نقرأه من نصوص لي وله كتبناها في أوقات متقاربة.
الآن، وأنا أكتب على هدي هذه الحوارات الطويلة، أتذكر نقطة البداية، فقبل عدّة سنوات مرَّت كلمح الفكرة، رأيتُ لأول مرة هذا القادم من ارض الخوارزميات العتيدة، الرياضي المتأمل.
كان أولُ حديثٍ بيننا عن فيلم هوليودي يصوِّر حياة عالم رياضيات أمريكي، استطاع ببصيرته النافذة أن يتجاوز الواقع ويعيش فيما وراءَ البعد الرابع، ولذا، كان هذا الرياضي ينظر بنوع من الشعرية المفتوحة البعيدة عن العقلانية الديكارتية، فكان يرى أشياءَ لا يراها العاديون، عند هذه التخوم يتقاطع الأدب والفن والفلسفة والعلم، فالأديب والفنان والفيلسوف وكذا العالم هم أناس مبدعون لأنهم يمتلكون الدربة ليروا بجلاء ما لم يره العاديون في ظاهرة ما.
إنني أسوق هذه المقدمة للتدليل على مدى التجاور ما بين العلم والأدب والفلسفة، فكل منها يحتاج إلى التأمل العميق والغوص في التفاصيل لرؤية اللامرئي، ومن جهة ثانية للإشارة إلى الخلطة اللطيفة التي يمثلها كاتبنا بوصفه رياضيًا وباحثًا تربويًا ومطلاً على المشهد الثقافي ومجرّب في ميدان الأدب.
إذًا، من هذه التخوم جاء كاتب هذه النصوص، متخطياً وعورة مفازات الرياضيات وحبائل الفلسفة، وإشكاليات البحث التربوي وخطابه العقلاني المُتسلِّط واليابس، حاملا على عاتقه نصوصا هي خلطة شعرية مفرطة في الحلم، هدفها تسمية الأشياء من جديد، علّها تُعيد إليها نقاءها الأول وبراءتها الأولى.
وإذا كان هذا الكتاب هو الأول في سيرة الكاتب الأدبية، فهو ليس كذلك في سيرته المهنية، إذ سبق له أن ألف كتبًا في مجال التربية، وحتى عندما قرأتُ هذه المؤلفات لمستُ فيها تلك المسحة الجمالية التي تخفف إلى حد كبير من وطأة الرياضيات وجمودها، واذكر أنني عندما قرأت كتابه الأول «ثقافة الرياضيات.. نحو رياضيات ذات معنى» اندهشت لقدرته الفريدة على تطويع القصة القصيرة كسياق لتعليم الرياضيات.
خلاصة القول: إن الأسلوب الأدبي الجميل في هذا الكتاب الذي بين أيدينا تم التأسيس له باكرا في كتابات سابقة، وإن لم تكن في ميدان الأدب.