"اساتذة الوهم"، رواية للروائي العراقي المقيم في بروكسل علي بدر، صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ تكشف هذه الرواية عن صفحة مخفية من الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في بغداد الثمانينات، المقاهي الادبية، التجمعات الشعرية، الحياة المدنية تحت الحر
أنت هنا
قراءة كتاب أساتذة الوهم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
في هذا المنزل الذي يلمّ العائلة، كنا نحصل على الكثير من الاستقلالية، والكثير من الحرية بالنسبة لعيسى وبالنسبة لي أيضاً· نصعد وننزل الدرج، نقرأ الجريدة في الحديقة، ونشرب الشاي في الصالة، ونصعد على السطح، نتجول في المنزل ونحن نضرب شريط البيانو كلّما نمرّ منه فيتصاعد الصوت مدوياً في المنزل·
كانت صورة البيانو في المنزل ذات صفة استعراضية أكثر مما هي فنية، ذلك أننا لم نر أحداً يعزف عليه، إلا بعض المرات التي يطلب منير فيها من والدته أن تعزف قطعة صغيرة حينما يريد أن يتباهى أمام أصدقائه، فيذهب مثل الطفل ليتوسل بها لتعزف لنا، فتأتي وهي ترتدي صدرية المطبخ، لتعزف قطعة لا تتجاوز الثلاث دقائق، وهي في الغالب من كسارة البندق، أو مقطع صغير من العصفور الناري، ثم تنهض لتشدّ الشال على رأسها، وتقول لنا إنها قد تحوّلت بسبب الحياة وبسبب الطقس إلى عراقية، أي قطعت أي علاقة لها بالفن·
أما الزوج الذي كان يحضر في السبعينيات مع زوجته حفلات البيانو المقامة في بغداد، لباتريس أوهانسيان، أو أغنس بشير، فقد انقطع هو الآخر عن القراءة أو الفن أو السينما، ولم يعد له سوى قراءة الصحف المحلية والمجلات والتفرج من النافذة على المارة، وربما أخذت المكتبة والبيانو شيئاً فشيئاً تثيران فيه الحزن والضيق·
أما في واجهة الصالة، فبالإضافة إلى البيانو هنالك الخزانة المليئة بالخزفيات الروسية، والملاعق والسكاكين الفضية، والسكريات، وعلب التبغ، والكؤوس الكريستالية، ومرشات ماء الزهر، ودمى صغيرة تمثل الأزياء الروسية·
بعد قراءة هذه الرسالة أخذت أعيد تذكّر تلك الأيام بقوّة، أتذكّر والد منير وهو يجلس على الدوام على مقعد خيزران، تحت الأوراق الصفراء فـي الحديقة، يتأمّل الأشجار، وصفوف الآس المقصوص، يداه تستندان إلى مسند الكرسي، وزوجته الروسية تقف إلى جانبه بتنورتها الكتان الخفيف تضع على رأسها شالاً ملوناً وتلفه على طريقة نساء تولستوي الروسيات·
وحين رأيتها هذه المرة لم يكن بإمكاني أن أصدّق أن الزمن استطاع أن يحدث مثل هذا الخراب ليس فـي العراق وحسب، إنما في هذه العائلة التي فقدت ابنها في الحرب أيضاً·