كتاب "دور العرب في تطور الشعر الأوروبي" للناقد العراقي د.عبد الواحد لؤلؤة، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ ويقول د.
أنت هنا
قراءة كتاب دور العرب في تطور الشعر الأوروبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

دور العرب في تطور الشعر الأوروبي
الصفحة رقم: 3
شيء من التاريخ
دراسة التأثّر والتأثير بين حضارتين- ثقافتين تدعو إلى النظر في المِهاد التاريخي لدى الجانبين· هذه حقيقة بديهية، هي من الوضوح بحيث غابت عن أنظار بعض الباحثين، أو جرى تجاوزها، سهواً أو عمداً· وقد أدّى ذلك، في بعض الحالات، إلى ادّعاء أن ظاهرة حضارية- ثقافية بعينها قد نشأت في هذا البلد أو ذاك نشوءاً ذاتياً، في تربة ذلك البلد، من دون تأثير خارجي أو تلاقح مع مؤثرات أخرى· هذه صورة من صور التعصّب العرقي أو الديني، يجب تعريتها في أية دراسة علمية نزيهة·
منذ فجر التاريخ كان ثمة تداخلات بين الحضارات- الثقافات، بسبب الحروب والغزوات، والتجارة والتزاوج، بين شتى الأجناس والقوميات· ويهمّنا في هذا المجال مظاهر التأثر والتأثير في اللغة؛ والشعر وفنونه أبرز ما يدل على التلاحم الحضاري- الثقافي عبر عصور التاريخ· وفي بلادنا العربية لدينا مثال بارز على ذلك في تأثر اللغة العربية بمفردات دخلت في لغة قريش، وهي أنشط القبائل العربية في التجارة قبل الإسلام· ولغة قريش هي التي نزل بها القرآن الكريم فاستَوَت معياراً للفصاحة· وبسبب من تجارة قريش مع الأقوام غير العربية من فرس وبيزنطيين وأحباش وغيرهم، دخلت لغة قريش كلمات مثل درهم (دراخما الإغريقية) ودينار (ديناريوس اللاتينية الرومية) ومثلها القنطار وسندس واستبرق وزبرجد ومشكاة وكثير غيرها، نجدها في القرآن الكريم، ويحسبها بعضهم كلمات عربية، لأنها تعرّبت بورودها في النص القرآني· وقد حدث مثل ذلك، وعلى نطاق أوسع، في دخول مفردات عربية إلى اللغة الإسپانية، يقدّرها بعضهم بألوف كثيرة، بسبب الوجود العربي في شبه جزيرة إيبيريا ثمانية قرون، تبعها قرنان من الزمان لبقاء الموريسكيين في تلك البلاد· من تلك المفردات كلمات مثل: الزيتون، المخدّة، القصر، القلعة، الوادي الكبير، وادي الحجارة؛ وقد تحرّفت جميعها لتناسب اللفظ الإسپاني، فصارت: أسَّيتونه، المغاذة، الكاثرا، الكالا، گوادالكيفير، گوادا لاخارا، مع بعض التحريف اللفظي حسب المناطق·
يرى بعض الباحثين أن أول لقاء مهم بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأورپي المسيحي كان في معركة اليرموك عام 636م· وكان لذلك الانتصار الإسلامي الأول آثاره على مستويات شتى، لكني لا أحسب أن الناحية اللغوية/الأدبية كانت من الآثار البارزة لذلك الانتصار العسكري· غير أن فتح الجزيرة الإيبيرية الذي بدأ عام 711م، من جانب المسلمين، من عرب وبربر، كانت له آثار شديدة البروز على مستويات كثيرة، أهمها انتشار الإسلام واللغة العربية، فتحوّل كثير من نصارى الجزيرة من كاثوليك وآريوسيين إلى اعتناق الإسلام، واتخاذ اللغة العربية وسيلة للتفاهم، الى جانب لغة الرومانث المحلية· وكان لهذا الازدواج اللغوي آثاره الواضحة في تطوّر الشعر في تلك البلاد: تطوَّر الشعر العربي الذي حمله الفاتحون العرب من المشرق، فظهر الموشح وبعده الزجل· كما تطوّر شعر محلّي في جنوب غرب فرنسا وشمال غرب إسپانيا، في الخارطة الحالية، بفعل التلاقح الحضاري- الثقافي بين الشمال الأورپي المسيحي، والجنوب العربي الإسلامي، فكان شعر التروبادور الجوّالين، الذي انتشر بدوره إلى الشرق فانتعش مجدّداً في إيطاليا بما يدعى الأسلوب الحلو الجديد dolce stil nuovo ثم انتشر إلى شمال فرنسا، في شعر التروفير ومن هناك عبر إلى الجزر البريطانية بوساطة شعراء البلاط الفرنسي- الإنگليزي في القرن الثاني عشر، وتواصلت حلقات التطور حتى عادت أجراس الشعر الغنائي عند شكسپير تردّد أصداء من غنائيات التروفير والتروبادور وما ورثوه عن أجدادهم الوشّاحين والزجّالين·