كتاب "دور العرب في تطور الشعر الأوروبي" للناقد العراقي د.عبد الواحد لؤلؤة، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ ويقول د.
أنت هنا
قراءة كتاب دور العرب في تطور الشعر الأوروبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

دور العرب في تطور الشعر الأوروبي
الصفحة رقم: 9
هذا هو البيت الحادي والعشرون من القصيدة· ولكن، كيف نقطّع هذا البيت؟ مستَفعِلُن فاعلاتُن فاعلاتُن/فاعلاتُن فاعلُن فَعِلُ؟ هل يبدأ البيت بداية المجتثّ: مُستفعِلُن فاعلاتُنْ: إن جُثتِ الحركاتُ؟ ثم يصير إلى ما يشبه المديد في الشطر الثاني : فاعلاتن فاعِلُن فَعِلُ؟ كيف نقيم عروض هذا البيت الذي أعجبَ الحُطيئة بالمقارنة مع الأبيات الأخرى؟ هذه الاضطرابات في أوزان القصيدة لم تخفَ على النقاد عبر القرون· قال الجوهري عن البيت التاسع:
أو فَلَجٌ، ببطن وادٍ
للماء، من تحته قَسيبُ
لو رُوي: في بُطون وادٍ، لاستقام وزن البيت (3) وفي حاشية أبو العلاء على البيت الحادي والعشرين: أفْلح بما شئت فقد يُبلغ بالضَّعف··· البيت يُنشد بالفاء في قوله: فقد· وهي تُفسد الوزن· ]فاذا[ سقطت فالوزن مستقيم وفي نسخة المتحف البريطاني من جمهرة أشعار العرب هي بإسقاط الفاء(4)·
هذه الملاحظات الدقيقة من النقاد القدامى، والشهادات التي تُعلي من قيمة قصيدة عبيد بن الأبرص، سواء عند الجاهليين أو عند أهل عكاظ أو عند الحطيئة، على ما فيها من تجاوزات على قوانين العروض، لم تجعل القصيدة على غير أعاريض العرب فقد كانت تُنشد بالفاء وبغيرها، وليس لنا أن نشكّك في قدرة الجاهليين والشعراء اللاحقين على التمييز بين معلقة تلتزم عروضاً خليلياً التزاماً صارماً، وبين أخرى تتساهل في التزام العروض· قد يبدو هذا الكلام نوعاً من التجديف الأدبي أو النقدي· ولكن النص أمامنا، وقد بقينا نتدارسه عبر العصور، ولم يطلب أحدٌ أن يُقذف به في النار!
ليس من الصعب أن نجد أمثلة من الزحاف والخبن والطيّ في المعلقات الأخرى، وهي خروج على بحور الخليل بما لا يُرضي غُلاة العروضيين· معلّقة طرفة بن العبد مثلاً تبدأ بما يشبه بحر الطويل:
لخولةَ أطلالٌ ببُرقةِ ثَهمَدِ
تلوحُ كباقي الوشْم في ظاهر اليد
فَعولُ مَفاعيلُن فَعولُ مَفاعِلُ/فعولُ مَفاعيلنْ فَعولُنْ مَفاعلُ· غير أن هذا الاختلاف عن بحر الطويل في عروضه الصحيحة لا يفسدُ للودّ قضية لكن البيت الرابع والثلاثين يقارب الطويل في عروضه الصحيحة من وراء حجاب طرفة مُغرم بناقته إذ يصف أذُنَيها بقوله:
مؤلّلتانِ، تعرفُ العتقَ فيهما
كسامِعَتيَ شاهٍ، بحَومَلِ مُفَرَدِ
فعولُ مفاعِلُن فَعولُن مفاعِلُنْ· هل نتنكّر لهذا الوصف الجميل في سبيل تقديس عروض الخليل؟ ألا يمكن أن نُشيح السمع عن هذه الوقفة الناتئة بعد مؤلّلتان لنستمتع بالوصف والتشبيه؟ الشعر كلام موزون مقفّى، يفيد معنى، فإن لم يُفِد معنى بَطُل أن يكون شعراً، وإن جاء بوزن وقافية· قالها قُدامة بن جعفر (ت 320هـ/ 239م) وآمن بها نقّاد القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ومن تبعهم· هذا الخروج عن القوانين الموضوعة لاحقاً أتاح للشاعر الجاهلي أن يطوّف في الشعر كما يطوّف في صحرائه، يختار من المرابع ما يشاء، ومن الأهل والصحب من يشاء كما قال الشنفرى في حالة غضب:
ولي دونَكمُ أهلون سيدٌ عَمَلَّسٌ
وأرقطُ زُهلولٌ وعَرفاءَ جَيْألُ
فإذا كان عبيد بن الأبرص قد بالغ في الخروج عن قواعد العروض أكثر من غيره، فنحن لا نعرف ما أهمله الخليل من الشعر الجاهلي لنبوّ أوزانه، ولربما وجدنا قصائد أخرى تشبه خروج عبيد بن الأبرص لكنها لا تقلّ عنها، أو عن غيرها من المعلّقات، في جمال الوصف وإصابة المعنى
الخروج عن قواعد العروض في بقية المعلّقات، قليلاً أو كثيراً، زحافاً أو خبناً أو طيّاً، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، هو نوع من التطوير الذي مرّ به الشعر الجاهلي في حدود ما نعرف· كما أن الأسلوب أصابه تطوُّر هو الآخر، بشكل واعٍ أو غير واعٍ· وهذه نقطة لها دلالتها· وقف امرؤ القيس يبكي ويخاطب صاحبين اثنين· لكن طرفة ابن العبد يفتتح معلقته بالوقوف على أطلال خولة من دون بكاء·
وفي البيت الثاني يخاطب صحبَه وهم أكثر من اثنين:
وقوفاً بها صَحبي، عليَّ مطيَّهُم
يقولون: لا تهلك أسىً، وتجلَّدِ
وكأنه بذلك يخالف امرأ القيس في مطلع قصيدته، إذ اصطحب أكثر من اثنين، ولم يبكِ، ولم يطلب من صحبه البكاء على أطلال خولة، بل أصغى إلى نصيحتهم أن لا يهلِك أسى، بل عليه أن يتجلّد· أليس في هذه البداية كفاية من تطوير في الأسلوب؟ غير أن هذا البيت الثاني في معلَّقة طرفة يكاد يكون صورة من البيت الخامس في معلّقة امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي، عليّ مطيّهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمَّل