رواية "أن تخاف"، تتناول فيها الكاتبة هدية حسين، هموم وواقع الإنسان العراقي في الداخل، وفي الشتات، والتي سبق للكاتبة معالجتها من خلال ست روايات، وأكثر من مجموعة قصصية، بالإضافة إلى قراءات نقدية في القصة والرواية.
أنت هنا
قراءة كتاب أن تخاف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
بالشمع الأحمر
لم تكن تلك الليلة عادية في حياة البغداديين، فقد هبّت عاصفة ترابية وغطت سماء بغداد وأرضها والأقضية المجاورة لها، أغلقت المحال التجارية والأسواق الشعبية أبوابها، واختبأ الناس في بيوتهم محكمين الأبواب والنوافذ والروازين وكل الثغرات التي يمكن أن تسرّب الغبار، توقف كل شيء عن الحياة، اختفت الألوان وتلاشى مدى الرؤية، وساد اللون الرمادي المصفر ثم المتحول إلى البرتقالي كل شيء، لم تشهد بغداد من قبل مثل هذا الهجوم الكاسح من أطنان الأتربة والرمال، كأن صحراء نجد والحجاز تقيأت كل رمالها وقذفتها على المدينة التي كانت مدورة ورائقة ذات يوم·
ليلة طويلة لم يسمع فيها غير أبواق سيارات الإسعاف تنقل إلى المستشفيات المواطنين الذين تعرضوا للاختناق، خصوصاً كبار السن والأطفال المصابين بالربو والحساسية، صاحب تلك الليلة انقطاع تام للطاقة الكهربائية في جميع مناطق وأحياء العاصمة·· عاصفة تشكّلت كمجموعة من المطبات الصغيرة والأمواج الملتفة، ثم هدرت بسحابات غبار هائلة فتحوّل الفضاء إلى لون برتقالي وأدى إلى اختناقات في الحلوق، واحتقانات في العيون، ومعاناة شديدة للمرضى·
قبل أن تأخذ العاصفة مداها وحين كان ثمة رؤية، خرجت أنغام عارف من بيت صديقتها فيروز السعدي في الأعظمية متوجهة إلى شقتها في مجمّع الصالحية، بعد دقائق من ذلك الخروج اشتدت العاصفة، وشيئاً فشيئاً تدنى مدى الرؤية فقادت السيارة بمشقة بالغة حتى وصلت وركنتها في كراج العمارة، واضطرت للصعود عبر الدرج الجانبي بسبب عطل المصعد، تلمست طريقها إلى الطابق التاسع متمسكة بدرابزين الدرج، شعرت بأنفاسها تتقطع وقد ابتلعت الكثير من الغبار حتى وصلت عند باب شقتها، وبصعوبة دوّرت المفتاح·
قالت لها فيروز قبل أن تخرج، هاتفيني عندما تصلين، ولأنها لم تتلق أي اتصال ولم تسمع أي رد على الهاتف الآخر فقد ساورها القلق، لكن من يجرؤ على الخروج بعد أن جُنت العاصفة وعبثت بهدوء المدينة؟
عند بزوغ الفجر بعد أن نفضت كل ما لديها من دوامات، وبدا كل شيء بلون ترابي كامد، الأبنية والأشجار، والنباتات والشوارع والبيوت والحدائق والساحات والجسور والسيارات المركونة، هدأت العاصفة قليلاً، ورويداً بدأت الشمس تنثر خيوطها الذهبية خائفة هي الأخرى، ولم يعد لضوئها سطوع الصباحات الماضية، وخرج الناس يغسلون مداخل البيوت ومخارجها، والحدائق ليتخلصوا من آثار ما خلفته العاصفة على أثاثهم وموجودات بيوتهم من نثار الأتربة·
كان ضابط التحقيق زهير مراد يتناول فطوره عندما تلقى مكالمة هاتفية من المركز اضطرته أن يخرج على الفور، ويتوجه بصحبة مساعده، الذي كان خافراً في ليلة العاصفة مع اثنين من الشرطة إلى مجمّع الصالحية، لم تعد العاصفة الحكاية الأهم في ذلك الصباح، بل الجريمة التي اقتُرفت بين كثافة غبارها وليلها الدامس الطويل، وتصدرت الصحف في اليوم التالي جنباً إلى جنب مع أهوال ما خلفته العاصفة التي هدأت ولم تهدأ عاصفة الجريمة·