"في البال" للكاتبة الأردنية غصون رحال؛ تتناول فيها العدوان الصهيوني على غزة من منظور أدبي؛ ففي أسلوب سردي مشوق، تضع الأدبية كل خبراتها المعرفية والجمالية والإبداعية للكشف عن مسيرة طويلة من محطات الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال إستعراض تفاصيل الحياة اليومي
أنت هنا
قراءة كتاب في البال
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
منذ أيام، أشياؤها الصغيرة لم تبرح مكانها· تمترست داخل إطار ثابت تمّ اختزاله في صورة فوتوغرافية، التقطت على حين غرّة، ثم تركت جانباً· زجاجة العطر على طاولة الزينة لم تنقص رشّة واحدة، شالها الحريري ما زال يحتضن كتف الكرسي، حقيبتها الجلدية السوداء الصغيرة، التي رافقت نزهاتنا، تقبع في مكانها على الأرض، معطفها الرمادي الأثير يتعلّق بإهمال على علاّقة الملابس الخشبية في الركن البعيد· هي الغائبة الوحيدة عن المشهد، وكأنها مومياء تعرّت للتو من أشيائها الصغيرة تلك، وتركتها على أمل العودة إليها في حياة أخرى!
أضع بصري جانباً، وأطلق لبصيرتي عنانها· إنه موسم الموت بلا أدنى مراوغة· إنه عام الموت كما وصفته! أرقبها تئنّ بصمت، وتحرّك رأسها ذات اليمين، وذات اليسار فوق الوسادة، قبل أن تذهب في نوبات غياب، تطول أو تقصر، وفقاً لمفعول المسكّن الذي وقع عليه اختيارها من بين كمّ المسكنات الملقاة على الطاولة الجانبية·
أتساءل في نفسي: أيّ مسكّن بوسعه أن يحول بينها وبين هول ما يجري على الشاشة؟ وكأن المرض الذي يفتك بجسدها غير كاف، حتى تختتم حياتها بمثل هذا الخراب الذي لا يوصف!
في لحظة فاصلة ما بين ليل دخاني السواد، وفجر فسفوري البياض· استردّت وعيها، فتحت عينيها على اتساعهما، استجمعت أنفاسها ونطقت برغبتها الأخيرة:يا غريب، إن متّ، فألّف نشيد أناشيد لي، واحفر اسمي على جذع قبر قرب شجرة ياسمين
أمسكتُ برأسي بين يديّ مانعاً إياه من سقوط محتّم· ابتلعت دمعة عالقة في حلقي، وأطلقت تنهيدة حارقة· تأملت هذيانها هامساً: أيتها الغريبة، ما أنا بمنشد، فأي إرث تحمّلينني؟!
ما أنا إلا عابر سبيل على أرض باعت ضميرها، أجّرت غيماتها للطائرات المقاتلة، ومنحت شواطئها للبوارج المدجّجة بالقنابل، طوّقت أطرافها بالعسس والحراس، واختارت الانقسام إلى نصفين لا ثالث لهما: شماليّ فاحش الغبن، وجنوبيّ غارق في اليتم··· حتى وإن حاولت تنفيذ رغبتك الغريبة هذه، فلن أستطيع· إذ لست أدري كيف أبدأ، ولا من أين أبدأ، وعلى أي شكل سيأتي نشيدك هذا؟ ملهاة أم مأساة؟ ربما ملهاة سوداوية تليق بما يجري في هذا العالم، أو مأساة هزلية تضفي على الحكاية بعداً أسطورياً غامضاً·
تمتمت لنفسي: لابد أنها تهذي، ولا تعي ما تقول، أو أن الأمر التبس عليها بفعل ما تتناوله من أدوية ومسكّنات!
دسست نفسي إلى جوارها في السرير، أغمضت عيني في محاولة للوصول إلى نوم خاطف مريح، غير أن النوم ضلّ سبيله اليّ، ولم تجد نفعا كل الخراف التي عددتها، وذبحتها، وسلختها بغية استجلابه· كل خروف من الخراف التي عددتها كان يثغو في أذني قبل ذبحه: ماذا لو لم تكن تهذي؟ ماذا لو كانت جادة في رغبتها؟
اعتدلت في السرير، أشعلت سيجارة، وسحبت أنفاسها ببطء شديد، سحقت عقبها في منفضة السجائر الزجاجية القابعة على الطاولة الجانبية للسرير، رشفت رشفة من كوب الماء قبل أن أعود لمطاردة النوم ثانية· أفرغت ذهني من أية فكرة مزعجة، بحلقت في السقف وتخيّلت أنني أمتطي بساط الريح المزركش وأعلو به فوق السحاب، أنفذ من غلاف الكرة الأرضية إلى حيث فضاء شاسع مرصّع بالكواكب والنجوم، نجوم كثيرة لا تحصى تلمع في البعيد، أطوف حولها وأكاد ألمسها بأصابعي···
فجأة، اختفت النجمات المضيئة عن ناظري، وارتسمت على اتساع سقف الغرفة صور ومشاهد تمثّل ما مضى من عمري بما اعتراه من اهتراء، وما لحق به من خدوش، معروضة أمامي في فيلم تسجيليّ محايد ونزيه· رأيت حياتي بكل تفاصيلها ماثلة أمام عيني كما لو كنت أرى حلماً بعينين مفتوحتين·
نهضت من الفراش مفزوعاً، جرعت ما تبقى من كوب الماء، جلست على حافة السرير حاملاً رأسي بين كفيّ، هززته بشدة في محاولة لنفض ما يمكن أن يكون قد علق به من وساوس وتهيؤات· أسندت رأسي إلى الوسادة وحاولت العودة إلى النوم مجدداً دون فائدة، ضربت بقبضتي الهواء ساخطاً: كيف أخلّص رأسي من هذا الجحيم؟


