"في البال" للكاتبة الأردنية غصون رحال؛ تتناول فيها العدوان الصهيوني على غزة من منظور أدبي؛ ففي أسلوب سردي مشوق، تضع الأدبية كل خبراتها المعرفية والجمالية والإبداعية للكشف عن مسيرة طويلة من محطات الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال إستعراض تفاصيل الحياة اليومي
أنت هنا
قراءة كتاب في البال
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
أضافت وهي تضحك: حين استوقفها جندي عراقي عند حاجز التفتيش، أخبرته أن هذه المستندات هي أوراقها الشخصية وشهاداتها الدراسية· تفحّصها الجندي بنظرات متشكّكة، وضع مسدسه فوق الصندوق، وتناول أحد الملفات، نظر إليه قليلا ثم أعاده إلى مكانه· لحسن الحظ كان الجندي لا يحسن القراءة، فلم يتمكن من قراءة الوثائق، وسمح لها بالمرور··· الله وحده حماها·
علّقت قائلة: آه والله، معك حق·
وبعد برهة سألت: وهل بقيتم في الكويت طيلة فترة الحرب؟
هزّت أمي رأسها نافية وتابعت: غادرت الكويت قبل القصف الأمريكي على العراق بحكم أنني أحمل الجنسية البريطانية، وهذه حكاية أخرى···
قاطعتها: عن جدّ؟ وكيف حصلت عليها؟
ابتسمت أمي مستذكرة: غادر والدي فلسطين أيام الانتداب البريطاني إلى قبرص بجواز سفر بريطاني مؤقت، كان الإنجليز يمنحونه حينها لمساعدة الناس على السفر· استقرّ في منطقة نائية في شمال الجزيرة حيث تكثر مناجم النحاس· عمل في أحد المناجم، وسرعان ما وجد له عروساً من سكان المنطقة تزوجها وأنجب ثلاثة أولاد وأنا، بعد زمن قصير حصل على الجنسية البريطانية، وهكذا أصبحت أنا وإخوتي بريطانيين لأن قبرص كانت مستعمرة بريطانية وقتها·
فتحت عينيها على اتساعهما بذهول وعلّقت: حكاية غريبة فعلاً! ولكن كيف تعرّفت على عمي أبو عماد؟
تثاءبت أمي قائلة: هذه حكاية طويلة، اطلبي من عمك أبو عماد أن يحكيها لك لاحقاً·
أجابت على مضض: طيب، لنرجع إلى قصة الكويت·
سردت أمي ما تبقى من القصة دفعة واحدة قبل أن تذهب إلى سريرها: قبل القصف الأمريكي على العراق، ذهبت إلى السفارة البريطانية للحصول على تأشيرة سفر لأبي عماد والأولاد، فرفضوا منحي التأشيرة· طلبت مقابلة القنصل وأظهرت له جواز سفري البريطاني، فوافق على إخراجي من الكويت بمفردي، بحكم أنني من الرعايا البريطانيين، أما زوجي وأولادي فقال إنهم غير مشمولين بهذه الرعاية· طلبت منه أن يمنح الطفل أيضاً تأشيرة لأتمكن من إيصاله إلى والديه، فوافق على اعتبار أنها حالة إنسانية·
بعدها، شرح لي الخطة التي سينقلون بها الرعايا البريطانيين بعيداً عن أنظار القوات العراقية· طلب مني التواجد في مقرّ جمعية تعاونية في منطقة حولّي، ليتم نقلنا إلى المطار ومن ثم إلى لندن· وهكذا خرجت وبقي أبو عماد ولميس ووائل·
التفتت إلى أبي والفضول يدفعها لمعرفة المزيد من التفاصيل· سألته: عم أبو عماد، كيف أمضيتم الوقت تحت الاحتلال؟ هل كانت هناك مظاهر احتلال حقيقية؟ هل تعرضتم للأذى؟
ابتسم أبي الذي قارب على الثمانين وأوضح: يا بنتي، الله بكسر وبجبر!·
نظرت إليه نظرة تدل على عدم الفهم وسألت: كيف يعني؟
رغم كبر سن أبي إلاّ أنه يحب الدعابة والمواربة في الكلام· لكنه سايرها مجاملاً ربما لكي ينهي تساؤلاتها، ويتمكن من الذهاب إلى النوم: لم يكن احتلالاً بمعنى الكلمة، أنا أعرف ما هو الاحتلال منذ أيام الاحتلال الإسرائيلي في يافا، حين كان الجيش الإسرائيلي يداهم البيوت ويعتقل سكانها، يطوّقون القرى يومياً ويقتلون الناس في الطرقات، أما الجنود العراقيون فكانوا يوجدون في نقاط معينة للتفتيش، لا يطلقون النار إلا إذا تعرضوا لإطلاق النار عليهم من قبل مجموعات من الكويتيين والعرب سمّوا أنفسهم بالفدائيين····
يضحك أبي وهو يكمل: كما قلت لك، الله بكسر وبجبر، يعني، كنت كلما مررت بحاجز يسألني الجندي: من أين أنت؟ أجيب: فلسطيني، فيضرب لي تحية ويسمح لي بالمرور·
سرح أبي مستحضراً تفاصيل مضى عليها ما يقارب الأربعة عشر عاماً، ثم تابع: قليلاً ما كنت أخرج من البيت، فقط لأجل شراء الخبز والمواد الغذائية· أحياناً كنت أخرج لأبحث عن أشخاص يستخدمون خطوطاً للاتصالات الدولية لا أعرف كيف يحصلون عليها· أنتظر لساعات حتى يصلني الدور، فأتكلم دقيقتين أو ثلاثاً مع أم عماد هنا في بريطانيا، كانت هذه الدقائق تكلّفني عشرة أضعاف المكالمة في الأيام العادية·
واصلت استفسارها: وكيف خرجتم؟
أسند أبي ظهره إلى المقعد مسترخياً وقال: الله لا يعيد هديك الأيام··· حاولت الحصول على تأشيرة إلى مصر، ولكن السفارة المصرية رفضت· تصوّري! مصر لم تسمح لحملة وثائقها بالدخول إلى أراضيها وحكمت علينا بالموت تحت الحصار! قالوا لنا أولاد ال···: إذهبو إلى فلسطين، أو اعرضوا أمركم على الأمم المتحدة لطلب اللجوء·
زفر بألم وأكمل: آخ يا بنتي، الله يسامحهم· لو كانت فلسطين غير محتلّة لما كنا غادرناها أصلاً· منذ أن هربت أسرتي من منشية يافا في العام 1948، إلى غزة وكنت مازلت فتى في السادسة عشرة، ثم رحيلنا إلى الكويت بوثائق سفر مصرية في منتصف الخمسينات، لم أعرف لي بلداً غير الكويت·


