"في البال" للكاتبة الأردنية غصون رحال؛ تتناول فيها العدوان الصهيوني على غزة من منظور أدبي؛ ففي أسلوب سردي مشوق، تضع الأدبية كل خبراتها المعرفية والجمالية والإبداعية للكشف عن مسيرة طويلة من محطات الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال إستعراض تفاصيل الحياة اليومي
أنت هنا
قراءة كتاب في البال
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
قبل تلك اللحظة، كنت على يقين من أن نهايتي حتماً ما ستكون فوق صدرها، لأنني كنت قد خطّطت بالفعل لأن أمضي معها حياة طويلة، تنتهي بشيخوخة هانئة كحال غالبية الناس هنا· وكثيراً ما كنت أغمض عينيّ لأرانا عجوزين يتعكزان على بعضهما، يتمشيان في ظهيرة مشمسة في أنحاء حديقة عامة، يرتاحان على مقعد خشبي حين ينهكهما التعب، يطعمان الحمام ما يتساقط من فتات خبزهما، وما إن تغرب الشمس، حتى أسبل عينيّ، ثم ألقي برأسي فوق صدرها لأموت ميتة سعيدة، فيما تتولى الحكومة تأمين كل ما يلزمها من مسكن وعلاج، ومصاريف دفن···
قبل تلك اللحظة، كنت على الأقل، على يقين من أنها هنا· صحيح أنها ما زالت ممزّقة ما بين الهنا والهناك، ولكنها تظل ضمن الجهات الممكنة، الجهات التي يمكن تحديدها والوصول إليها، أما بعد تلك اللحظة، فلست أدري··· إنها لحظة مختلفة دون شك، لحظة قائمة بذاتها، كأنها يوم قيامة، لا تاريخ لها، نزعت عنوة عن قائمة الوجود، شقّها عن مسيرة الزمن رنين هاتف وزجّ بها خارج حسابات الوقت···
رنّ جرس الهاتف مبدّداً صمت الجدران· فنجان القهوة الذي تبتدئ به صباحاتها لم تمسّه بعد· تحركت ببطء لتجيب على الهاتف·
وصل إلى مسمعها صوت رقيق يتحدث بلسان إنجليزي فصيح: Mrs Faris؟
همست: Yes
جاءها الصوت متابعاً: أنا آن من العيادة المحلية·
لم تنطق، أومأت برأسها وهمهمت للمرأة على الطرف الآخر بأن تكمل·
تابع الصوت: الدكتور وايت يود مقابلتك بعد الظهر إن أمكن·
بلّت ريقها برشفة من فنجان القهوة، استجمعت قواها مستفسرة: بخصوص ماذا؟
أجاب الصوت: بخصوص الكشف الذي أجراه لك الأسبوع الماضي·
زفرت زفرة طويلة وقالت: حسناً·
جاءها الصوت خافتاً: نراك لاحقاً· إلى اللقاء·
تعرف ما وراء مثل هذا الاستدعاء· بالأحرى، لم يفارق تفكيرها منذ أخبرها الطبيب العام أنه يمكن استدعاؤها ثانية من أجل إجراء فحوصات شعاعية لثديها· تيقنت حينها أن تلك الندبة التي اصطدمت بها أناملها فجأة قبل أسابيع قليلة على جانب ثديها الأيسر وهي تستحم، لن تتركها بسلام·
حينها، لم تلتفت كثيراً للأمر، ظنّتها ندبة عابرة نبتت للتوّ بفعل رشاش الماء الدافق· أينعت على غفلة منها منتشية بقطرات الماء الدافئة، وأنها لابد وأن تذوي وتذهب إلى حال سبيلها قريباً· غير أن الندبة لم تذهب، بل اشتّدت صلابة وتحجّراً، وأصبح لونها مريباً ومنفّرا على نحو يستدعي القلق··· ماذا لو أنه السرطان؟
استحضرت جميع القصص التي سمعتها عن سرطان الثدي، واستعرضت أسماء النساء اللواتي أصبن به من قريباتها ومعارفها، وتلك القصص التي سمعتها عن نساء لا تعرفهن أصبن به وفقدن أحد الثديين أو كلاهما، وربما حياتهن أيضا· كل مكالمة تلفونية مع إحدى قريباتها أو صديقاتها في عمّان، تحمل لها خبراً عن إصابة جديدة، حتى غدت على يقين من أن هذا المرض سينال من جميع نساء الأرض، إنها مسألة وقت لا أكثر، وعلى جميع النساء انتظار أدوارهن برباطة جأش·
لسوء الحظ، أو لسبب آخر يصعب فهمه، حان دورها بأسرع مما توقعت· ورغم التحصينات التي أحاطت بها نفسها طيلة هذه السنين لمواجهة أي ضعف أو انهيار في حال إن وقع عليها الدور، إلا أن حالة من الجزع اجتاحت كيانها· ألقت برأسها إلى الخلف وأسندته إلى حافة المقعد وتساءلت في نفسها: وهل هذا وقته؟ ليس الآن··· ليس هذه السنة على الأقل···· لم أتمّ فرحتي بعد، ما زلت عروساً وإن تجاوزت الأربعين!
قامت إلى أعمالها اليومية مسرعة، رتّبت الفراش، نفضت الغبار، غسلت الأطباق التي في حوض المطبخ، نظّفت المنزل بالمكنسة الكهربائية، أخرجت كيساً من اللحم من المجمّدة مفكرة فيما عساها ستعد لوجبة العشاء، استقرت إلى تحضير وجبة من الفاصولياء الخضراء بالإضافة إلى الأرز·


