أنت هنا

قراءة كتاب في البال

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في البال

في البال

"في البال" للكاتبة الأردنية غصون رحال؛ تتناول فيها العدوان الصهيوني على غزة من منظور أدبي؛ ففي أسلوب سردي مشوق، تضع الأدبية كل خبراتها المعرفية والجمالية والإبداعية للكشف عن مسيرة طويلة من محطات الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال إستعراض تفاصيل الحياة اليومي

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
دوّى صوت في أذني مصدّعا جمجمتي: نفّذ رغبتها، قد لا تكون منشداً كما تدعي، ولكن الحكاية، أية حكاية، لابد لها من منشد! إنها رغبتها الأخيرة، لن تخذلها بالتأكيد·
 
قفزت من السرير وكأن قوة خفيّة تحرّكني، خطوت إلى وسط الغرفة، ألقيت نظرة شاملة على محتوياتها، أزحت طاولة المكتب الصغيرة لأجل أن تقابل النافذة، وجهّزتها بمستلزمات بدت لي ضرورية لإنجاز المهمة: علبة السجائر، دلة القهوة، قلم حبر حالك السواد، وأوراق بيض· أعددت للنشيد طقوسه، ثم جلست خلف المكتب أرقب شروق الشمس خلف زجاج النافذة، فطالعتني شجرة تقف عارية دونما خجل على الرصيف· فروعها الطويلة الجرداء تحجب عني الرؤية، وتحيل الحقل الذي يمتد خلفها إلى صورة مشقّقة أمام ناظري·
 
منذ أن حططت رحالي على هذه الأرض، لم يكن بإمكاني تمييز الفصول بسهولة، لا الشمس ولا المطر بدليل واضح على الفصول، فقد تسطع شمس زائفة، باردة،كأنها لوحة معلّقة في السماء في منتصف كانون الثاني، وقد تهطل أمطار غزيرة محدثة فياضانات كارثية في عقر تموز·
 
الأشجار وحدها هي دليلي على الفصول!
 
راقبتها طويلاً، رصدت مزاجها، وتقلبات طباعها وأحوالها· تبدأ أوراقها الخضراء اليانعة، بالتحول إلى اللون الأحمر، فالأصفر، تتيبس ببطء وتتساقط تدريجياً، مثل راقصة تعرّ تخلع ثيابها قطعة تلو الأخرى فوق حلبة رقص خافتة الإضاءة، فأعرف أنها إشارات الخريف· تتعرى مما تبقى على أغصانها من وريقات حتى تصبح جرداء بالكامل، وبذلك يكون فصل الشتاء قد حلّ· وعندما تعود أوراقها الصغيرة إلى البروز والتكاثف من جديد، لتغطي كامل غصونها، أعرف أنه الربيع· أما الصيف، فيأتي عندما ترتدي كامل ثوبها الأخضر السميك الذي يحجب لون فروعها الداكنة·
 
أشعلت سيجارة، وشربت فنجاناً من القهوة، والأوراق البيض على الطاولة تطالعني بجفاء وتحمّلني وزر بياضها الآثم، وزر نقائها وخلوّها من خطوط تزيّن بها عنقها أو تزنّر بها خصرها· واجهت بياضها وقلمي في يدي، كأني أواجه موعداً مع خريف أبديّ ضاعت من حوله الفصول، خريف يخلو من أول الغيث وآخره، أعبر اليه أعزل من دون عتاد، إلا من رأس يؤوي جهنّم، أصابع من عيدان الكبريت، وروح تسابق الزمن···
 
حرقت سيجارة أخرى، أفرغت دلّة القهوة في جوفي، والأوراق البيض ما زالت تحتفظ ببياضها وجفائها· أصابعي تخشبت، والقلم في يدي يحرن عن كتابة حرف واحد· ألقيته من يدي فوق الطاولة، ورحت أجوب الغرفة طولاً وعرضاً كأني بانتظار ولادة طفل يماطل في الخروج من رحم أمه، في تحدّ سافر لمحاولات الطبيب الحثيثة لطرده عنوة من مأوى ألفه وسكن إليه· ألقيت نظرة سريعة إلى حيث هي ممددة فوق السرير بوجهها الهزيل، وجسدها العليل فانفطر قلبي لوعة وأسى· أغمضت عيني ووليت وجهي صوب الطاولة من جديد·
 
الموت من خلفي والأوراق من أمامي، ولا بد لي من أن أفرغ هذه الجهنم من رأسي، أن أصبّها كلمة كلمة حتى تنضب، ثم أشعلها بعيدان الكبريت· أمسكت بقلمي بيد وبرأسي باليد الأخرى أعصر ما به فوق الورقة···
 
أما آن لي أن أخلع أوجاعي وأستريح؟
 
سؤال ظلّ غائباً عني حتى تلك اللحظة، غير أنها لحظة فاصلة دون ريب، لحظة تستولد العدم من رحم اليقين!
 
طالما كنت على يقين من أن أوجاعي هي جزء مني، عضو من أعضائي، فقد كانت، قبل تلك اللحظة، تشبه إلى حد كبير، أنفي المدبب، أو كفي الخشنتين، أو حتى إصبع قدمي الكبير المنزوع الإظفر، غير أنها في تلك اللحظة، انفصلت عني لتصبح امتداداً لي! كبرت وتفاقمت حتى صارت تشبه سناماً محدّباً يعتلي ظهري· عضوي الجديد هذا، لا يمكنني رؤيته، لكني أشعر بجسامة ثقله فوق كتفي، وأكاد أجزم أنني أتلمّس وبر هضبته، ونتوءات قمته تحت أصابعي بجلاء كلما تحسّست ظهري، فتحدوني رغبة لأن أبادر أحدهم بالسؤال: هل ترى هرماً فوق ظهري؟ وكلما أمعنت في تكذيب شكوكي، ازداد يقيني بأن عضوي الجديد هذا قد غدا قدراً لا مفرّ منه، تماماً كما الهرم أو الشيخوخة·

الصفحات