رواية "منامات" للروائية العمانية جوخة الحارثي؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2004؛ نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب منامات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
منامات
الصفحة رقم: 1
منامات
دشداشته البيضاء تومض وتختفي كآخر نجمة في الأفق، أنا خلف الوميض ألهث، وعبثا أحاول اللحاق به، أكتشف أننا نصعد سلما حلزونيا، يلتوي على الإسطوانة الداخلية لبرج عال، يشرئب إلى سماء لا حدود لها··
أصيح: أرجوك قف·· أود التحدث إليك·· أرجوك·· ولكن صوتي كان يموت قبل أن يولد، ولا أسمعه، بل أسمع صفير ريح تدخل من شقوق الجدران المتآكلة، وأصوات غامضة، فأبكي وتنهمر دموعي كمطر، تتكاثف وتسيل على السلالم، أسمع ارتطام تدفقها بأحجار السلالم ثم صوت اندفاعها كسيل هادر، لا أكف عن الصعود خلف وميض الدشداشة : خذني معك·· خذني··، أتعثر، وتزحلقني الأرض التي ترطبت بدموعي، وأستمر في محاولة اللحاق به·· بوميضه الغامض كأن قوة خفية تحمله إلي ولا ألقاه·
الجدران الداخلية المتآكلة لا تحول دون تعريشات شجر متسلق، يفرز كل فرع دقيق مادة لاصقة تثبته في تشجير متداخل منظم يمتد لأعلى، وحلزونيا أيضا، تبدأ السلالم بالتزعزع تحت قدمي اللتين تبدوان مربوطتين بحبل غليظ، وصوت لا يشبه صوتي يتردد صداه في العتمة، ويختلط بمطر الدموع: أنا لست أنا·· وبيتي ليس ذلك البيت··، وكأنما جذبها الصوت أخذت حيوانات غريبة تندفع باتجاهي هابطة من أعلى السلالم: تنانين تنفث دخانا أسود، حمر بآذان أرانب وردية، وصقور بأقدام بشرية، زرافات بلا رقاب، ورقاب بلا رؤوس، يتعالى صراخ الصوت الذي لا يشبه صوتي مندفعا من مكان سحيق بداخلي : أنا لست أنا وبيتي ليس ذلك البيت·· خذني معك·· خذني··، وعول وحيتان ونمور مقطعة الأطراف، حيات قصيرة بتيجان، وفيلة بأجنحة، أروية وأيائل زاحفة، لكن صعودي خلف وميض دشداشته لا يتوقف، لا أصطدم بكل هذه الحيوانات الخرافية بل تمر كخيالات مسرعة، أتقدم أنا - ربما كانت الريح معي أيضا- عكس اتجاهها، تختلط خطواتي بالدم متفجرا من جروح كاحلي ويبدأ الحبل الغليظ فيها بالتفكك ساحبا معه في هبوطه المندفع إلى الأسفل قطعا من الجلد واللحم، تتبعه الحيات القصيرة المتوجة، وأبدأ بتمييز شعره الأسود إلا من بضع شعيرات بيضاء وبدا لي إني على وشك الإمساك بطرف ثوبه، عاد الصوت المخنوق: لمن تتركني؟·· خذني أرجوك··
أصبحت أقرب إليه، تعلقت فروع الأشجار المتسلقة بمعصمي وفي دورانها حول الإسطوانة أصبحت أدور، أسرع، حتى أحسست بقربه المبرح النفاذ فانحلت سيور معصمي والسلالم، وتلاشت الدموع والماء الحيوانات فجأة وأصبحنا على قمة البرج·
كان مقابلي، عيناه تنظران ولا تنظران إلي، لا أثر في وجهه لأدنى انتفاخ خلفه مرضه الأخير، ولا كدر ولا حزن، يقعد على كرسي عظيم، زخرفته نقوش بارزة حفرت بعناية على خشبه، زهور ببتلات تتعمق إلى القلب·· فراشات بأجنحة مزخرفة بدقة، وطيور تمتد أجنحتها حتى أعلى رأسه، حيث يلتقي أطراف ريشها في تناغم مدهش كأنما يضلل الرأس أو يحميه، وكان بين يديه عناقيد من الفرصاد يتقطر عصيرها في فم الأسد المنحوت على قاعدة الكرسي، أسد مستلق على حجر غلام نائم، كل ملامحه تشي بحزن عميق، عينا الأسد مغمضتان من الألم، قد تغضنت جبهته وبدا كأنه استسلم أخيرا ليأس حزن، شعره منسدل إلى الوراء كشعر بشري ويد الغلام غائصة فيه، يبدو فكه مفتوحا على بقايا أنين موجع وتسيل منه قطرات حمر من عصير الفرصاد·
تفيض السكينة نورا على ذلك المكان العالي، وعلى ذلك الوجه المطمئن، ولم أعد أمام بهائه إلا طيرا خاطئا صغيرا تمرغ عند أقدامه تكتب كل دمعة من حدقتيه كلمة أبي
حملت جرحي - اضطرارا لا اختيارا- وشما إلى الأبد، ومهما برئت من الألم أرى زرقة انحفاره التي كانت ، وأبصر في لهبها الداكن سحيق الأذى الذي نلحقه بأرواحنا حين نحاول دمجها بأرواح أخرى·
تلك الجنود المؤلفة، منها ما يأتلف، ومنها ما يستسيغ وهم الائتلاف، فإذا ما تقضقضت على عتبات الحقيقة تبدَّى عوار أسلحتها الهشة·
بعد سلسلة طويلة من الانكسارات والتعذيب المستمر، رأيتني في المنام أخلع قميصا بيتيا لأعطيه خطيبته معتذرة لها عن طول الاستعارة، وانخلعت عن جحيمي بمعجزة، تعلقت بأستار الكعبة أدعو بالخلاص، كتبت عشرات السطور من قاع روحي السقيم، مزقتني المنامات الطويلة المتكررة، صهلت فيَّ أفراس الآلام حتى قلت: الموت أو الموت·· ·ثم انخلعت عن الجحيم، بيد أني أختنق الآن بالدخان·