رواية "دوائر الجمر" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2005، للكاتب مؤيد العتيلي، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب دوائر الجمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

دوائر الجمر
الصفحة رقم: 6
أنا لم أر الأستاذ نديم في الأيام الأولى لفقدانه عقله، بل لم أره منذ الأيام الأخيرة لدوامنا المدرسي، وحين تقدمنا لامتحان الرياضيات كان الأستاذ نديم غائبا، كانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها يوم هبّت المظاهرة الأخيرة في المدرسة، كان ذلك قبل الحرب بعشرة أيام، كانت الحرب على الأبواب، وكانت مشاعر الحماسة والاندفاع قد استحكمت، فبعد الاعتداء على السموع في منطقة الخليل اندفعت المظاهرات في أنحاء البلاد، وكان الطلبة رأس الحربة، والمطلب الوحيد كان تأمين السّلاح، وفي عتّيل هبّت المظاهرات·· وتواصلت، وأشدّها عنفاً كانت المظاهرة الأخيرة، اندفع الطلبة خارج غرفهم الصفيّة، كان الطلبة الكبار في المقدّمة، أوقف الأستاذ نديم حصّة الرياضيات واندفع نحو باب الغرفة وفتحه على مصراعيه، أمرنا بالخروج··فقفزنا عن مقاعدنا، كنّا نتدافع خارج الصّف وكان الأستاذ نديم يهتف، واصلنا اندفاعنا وخرجنا إلى الشارع العام، كان ثمة المئات من الطلبة، وانضمّ إليهم المئات من الرّجال، وكانت النّسوة فوق أسطح البيوت وعلى جانبيّ الشارع تزغرد·· وتهتف، كان يوماً ساطعاً، واصلت المظاهرة مسيرتها جنوباً باتجاه دير الغصون وامتدّت الجموع بحشودها حتّى وصلت أعلى نقطة في الجبل، ثم استدارت واتّجهت شمالاً حتّى بلغت أطراف زيتا شمالاً، كانت الحشود تغطّي الشارع العام وتغطّي كذلك أطراف السّهل الغربيّ ،وكانت الهتافات تصدح في فضاء المنطقة ،كانت عتّيل وكانت دير الغصون··وزيتا وفي الشّرق كانت علاّر·· جميعها كانت مسرحاً لمظاهرة عارمة، تواصلت حتّى المساء حين اقتحم الفرسان بخيولهم جموع النّاس· حين بدأوا بإطلاق النّار في الهواء، كانت خيولهم الدّهماء تدوس الأجساد المتدافعة فيما كانت سياطهم تضرب يميناً وشمالاً·· وفي كلّ اتجاه·· منذ ذلك اليوم وحتّى يوم خروجنا لم أر الأستاذ نديم· قال بعض الطلبة إنّه مازال في السّجن، آخرون قالوا··بل أطلقوه لكنّ أوضاعه الصحيّة سيّئة· قامت الحرب واحتلّت البلاد·· فتقطّعت أوصال المنطقة مثلما تقطّعت أوصالنا، ولم نعد نعلم شيئاً مما يدور في الأرجاء ·
بعد معركة الجبل كان الإحساس بالرعب قد طغى، وطغى كذلك الإحساس بانعدام الأمل في يوم آخر·· في طلوع نهار جديد، في حلم جديد، كأنما توقف كل شيء، وأطبقت العتمة، وبدا شبح الفناء عن هذه الأرض وكأنه طائر أسود باسط جناحيه المظلمين العملاقين فوق مساحة الأرض·· وكانت عتيل والقرى المحيطة بها·· بسهولها وجبالها·· ببيوتها وأزقتها·· هي الأرض، ليس من عالم آخر، ليس من حياة أخرى، هكذا كان الإحساس، وأحس الجميع كأنها القيامة· كان الإحساس بالموت سيد المكان، سيد الأرواح التائهة في فضاء لا منفذ له، كان إحساساً تاماً بالانفصال عن المكان والزمان·· بالانفصال حتى عن الحواس الخمس، عن القلب والعقل· لم يحتمل الأستاذ نديم كل ذلك·· هكذا قالوا، تشظّى دماغه وتداخلت خلاياه، خرج عن الصمت، عن السكون، عن الظلمة·· لم تعد تعني له الحياة شيئاً، لم يعد يعنيه الناس، وكانت حواسه الخمس قد فرّت من جسده·· كالفراشات، خرج من بيته عاري الصدر، حافي القدمين، وراح يجوب أزقة قريته المقفرة، يقف عند جدران البيوت·· ويخطّ بإصبعه فوق الجدران، وصوته يهدر بالأرقام والمعادلات·· هكذا ابتدأ الأستاذ نديم·· هكذا قالوا·