من خلال كتابه " انزياحات أخرى " الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان .جاء الكتاب معنونا بـ " نصانيات"، وهو اقتراح شكل وبنيوي جديد ، يطرحه الدكتور محمد الأسدي ، رافعا لغته النثرية إلى أقصى درجات الشعر ، ومخلصا شعريته من روحها لتنـزل على النثر ضيفة رب
أنت هنا
قراءة كتاب إنزياحات أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
أدرك الجواهري أن القصيدة المتوارثة أخذت تأكل نفسها بعد أبي تمام والمتنبي والمعري تحديداً ، وأنها بدأت تخلي الساحة لتحول محتم يكتسح لغة الشعر ، وخلال ذلك كله كان يحلم بقدرة سفينة الخليل المتصدعة على اجتياز العاصفة باستحالتها جزءاً من أجزاء تلك العاصفة نفسها ، واكتسابها منها مقوماتها الجديدة ، على نحو يمكن معه القول بأن نص الجواهري هو بمثابة متحفٍ تراثي عرضت فيه خلاصات التجريب الشعري القديم و مورست في واجهاته البراقة تمرينات مجتهدة لمعتقدات وعبارات ذلك التجريب ، لقد تخطى في طرف من أنموذجه الخليلي للكتابة شعراء القرن التاسع عشر ، وشعراء أبولو والرابطة القلمية ومواطنَيه الرصافي والزهاوي ، ومجتمعات الكلاسية كافة ، فلم تقدم القصيدة ـ في الحدود الأبستمولوجية لبقايا الكلاسية حتى عهده ـ خيراً مما فعل ، ممثلا بذلك ما يشبه الحلقة المفقودة بين الخليلية القديمة والخليلية الجديدة ، التي ماتزال تحاول بمشقة بالغة غير مفضِيَةٍ غالباً أن توجد لها موطئَ قدم يضاهي رسوخ وتنوع كائنات الشعر غير الخليلية ، ولو افترضنا جدلاً أن تلك السفينة بقيت هي الوسيلة الوحيدة للرحلة إلى جزائر الشعر المجهولة فإنه سيكون قد اضطلع إلى حد ما بالمهمة التي اضطلع بها أبو تمام في زمنه حين صنع الحلقة الواصلة بين زمنين شعريين هما ما قبل أبي تمام وما بعده ، والمهمة التي نهض بها المتنبي بعد أبي تمام ، وهذا ما فعله المعري بعدهما حين أدرك أن المسار الجمالي للأدبية العربية قد بلغ قمة عطائه على يديهما ، فتوصل بحدسه الإبداعي إلى الانهمام بالجانب الفكري من النص الذي لم يبلغ من الإشباع ما بلغه الجانب الجمالي لديهما ، فكان أن أسس لالتحاق النص العربي بالجمالية الفلسفية التي وجدت أكفاءها من بعده لدى محيي الدين بن العربي والحلاج والنفري ، على هذا النحو وحده يمكن فهم موقع الجواهري في تأريخ الأدبية العربية المعاصرة ـ في الجانب الأكثر أهمية من منجزه ـ ممثلاً بالتوطئة للخليلية الجديدة ، ومحاولة تبيان قدرة الشكل القديم على استيعاب شئ من المفهومات والبنى المعرفية الجديدة للشعر ، وهي ريادة شاركه فيها السياب الذي لم ينقطع عن كتابة الشعر العمودي ـ في أتون ريادته وتأسيسه لحركة الشعر الحر ـ بل كان يسكب خبرته المعرفية والجمالية الجديدة في قصائد عمودية تؤسس للخليلية الحديثة مثل " بورت سعيد " و " القيامة الصغرى " و " من رؤيا فوكاي " وغيرها ، وهي قصائد عمودية مركبة ومتعددة الأبنية الكلية تختلف اختلافا جذريا عما أنجزه من قصائد عمودية في البواكير ، والأمر ذاته نجده لدى نازك ومحمود درويش وعبد الصبور ودنقل والنواب وأدونيس ، فقصيدة التفعيلة العربية ومن بعدها قصيدة النثر العربية ترعرعتا ونشأتا في مناخ التراث ، واكتسبتا منه مشروعيتهما وقدرتهما على التأثير بوصفهما خطاباً يمارس اتصاله مع الماضي وانفصاله عنه في لحظة معرفية إبداعية واحدة هي لحظة الكتابة ، كما يؤكد ذلك أن كتابة قصيدة النثر بطريقة القفزة المتغطرسة على ما قبلها يفقد الخطاب أساسه المعرفي وغائيته الجدلية .